الثلاثاء، 10 أبريل 2018

الاسم الكامل لأبي

قبل أيام قليلة من بلوغي الواحد والأربعين عرفت أن الاسم الكامل لأبي هو "رزق رزق سعيد سعيد". هذا الاسم لا يجب أن يُستخدم خارج نكتة ما، أو أن تحمله شخصية سينمائية كي تؤكد بالطريقة الهزلية القديمة إلى أي مدى كان القدر كريمًا معها، أو لتسخر على النقيض من حظها العاثر في الحياة. لا أتذكر أنني قابلت اسمًا يحمل هذه الصيغة التكرارية من قبل، وأشعر نتيجة لهذا أن الاكتشاف الذي يُضحكني الآن قد يكون واحدة من الرسائل الغريبة التي أصبحت تمرر لي في السنوات القليلة الماضية كمصادفات. العلامات التي تقصدني تحديدًا، وتُبعث في اللحظات المناسبة، قادمة من ذلك الاحتمال الغامض وراء العالم وفقًا لخطواتي المكشوفة كليًا بالنسبة له. أكره أن أتحدث كباولو كويلو، ولكني أعرف تمامًا أن الكينونة المتخيلة لهذا الاحتمال الغامض في ذهني قد تمثل كابوسًا مروّعًا لكويلو. يبدو الآن أنه يمنحني توافقًا إغوائيًا جديدًا، أو إثباتًا مُلهمًا لنظام مبهم من الأفكار المتراكمة، المستمرة في تأكيد نفسها كحقائق ناقصة لحياتي، ولتاريخ أسرتي. هل هو حدث عرضي أن أعرف هذه المعلومة عن أبي قبل يوم واحد من الموعد الذي قررته للبدء في هذه الكتابة، أم أن إشارة تخص المخطط المجهول لوجودي، وللحياة والموت بالضرورة، قد أُظهرت عن عمد في هذا التوقيت كي تدعم تصوري لما أواصل اعتباره نوعًا من الميتافيزيقا العاقلة التي دبرت كل شيء؟. كأن الغيب قد قرر مرة أخرى، وبالكيفية المراوغة المألوفة، أن يعطي خطواتي دافعًا رمزيًا ليعمق الثقة في قرائن الماضي، وفي قوة انسجامها. الذخيرة الاعتيادية التي تأتي في الزمن الملائم حتى يستعملها عمائي في سبيل وصوله نحو اليقين الكامل. هكذا أتخاطب أنا وذلك الاحتمال الغامض خارج العالم داخل ما أفترض أنها الحرب القديمة بيننا.
لم يكن لدي من قبل اهتمام كبير بمعرفة الاسم الخامس لي، الذي ظل مجهولًا تمامًا، وبالتالي لم أُقدم على محاولات جادة لاكتشافه. في طفولتي كنت أعتبر النزال المتفاخر بين الأولاد حول من يمتلك معرفة بأكبر عدد من أسماء جدوده سخيفًا، ربما لأنهم كانوا يحولون الدعابة الشهيرة للخواجة بيجو إلى موضوع هام، وهو ما كان يُشعرني بنوع من عدم التكافؤ. كنت أحس أثناء مراقبتهم بأن اسمي قد انتهى مبكرًا، أي قبل أن يصبح تعريفًا حقيقيًا لي مثل بقية أقراني، والذي كان الخاسر منهم يعلم اسم جده الثالث على الأقل. بالطبع كانت هذه اللعبة فضاءًا مثاليًا للاختلاق، ولكني لم أكن أستطيع الكذب في هذا الشأن. كان الأمر بالنسبة لي يتعلق بالهوية التي لا ينبغي تزييفها حتى ولو في إطار المرح الطفولي الذي لم يكن يبدو لي كذلك حينئذ، وبصرف النظر عن انشغالي بالتخلص من الفراغ العالق في هذه الهوية من عدمه. كان من البديهي أن يُترك التعريف العائلي مبتورًا عن أن يحصل على استمرار ملفق، مهما كانت القوة المتأرجحة للتأثر بعدم المعرفة.
لكن الشعور بالنقص الذي كرّس لعدم الاهتمام بمعرفة المزيد من أسماء جدودي لم يكن ناجمًا عن غياب الإدراك، وإنما لإحساس بأن النهاية المبكرة لاسمي لم تحجب اسمًا من الأسلاف فحسب بل قامت بالتعتيم على حياة تم فصلها عن سلسلة من الحيوات السابقة. مقارنة بالآخرين مكتملي الهوية، كان نقصان اسمي غريبًا، مثيرًا للشك، وربما الخوف أيضًا. بدا لي أن الاسم الأخير لي قد تحوّل إلى حافة ملغزة، شاهدة على انقطاع مفاجئ حدث في ماض بعيد، وترك صمتًا شبحيًا محل وجود طُمس عمدًا. لهذا لم أرغب في أن يكون لي علم بما كنت أعتبره سرًا مقلقًا، أو بالأحرى لم أسع لهذه المعرفة، وإن ظللت إحدى أمنياتي في العالم أن تأتيني بمحض إرادتها. لاشك أن علاقتي بأبي قد ساهمت بصورة حاسمة في عدم الحرص على إدراك الحقائق العائلية التي أجهلها؛ فطوال ثلاث وعشرين سنة عشتها معه قبل أن ينسيه الزهايمر كل شيء لم أحصل على فرصة مواتية لسؤاله عن الاسم الخامس لي، وحينما أقول مواتية فإنني أقصد اللحظة المضمونة التي أشعر خلالها بيقين تام أنه لن يترتب على حضورها عواقب سيئة. كانت التعريف المبتور في اسمي يمثل قهرًا غامضًا، محصنًا بصرامة تهديدية قاطعة، ينسجم تمامًا مع شخصية أبي ويرسّخ لها، ولهذا كان يجب أن يُعامل هذا التعريف مثله، أي بعدم التفكير في الاقتراب من احتمالات استفزازه. على جانب آخر كنت متأكدًا، ودون محاولة للتيقن من هذا الاعتقاد بأن أمي لا تعلم عن أسماء جدودي أكثر مما أكتبه على أغلفة الكشاكيل والكراسات، وكان ذلك يرجع أيضًا إلى توافق عدم المعرفة لأمر كهذا مع شخصية أمي. كانت لأمي طبيعة توحي دائمًا بأنها لا تمتلك الإجابة حول ما تود أن تسألها عنه، خصوصًا حينما يتعلق الاستفهام بأبي حتى لو كانت تعلم هذه الإجابة بالفعل.
هكذا حددت زيارة أختي إلى السجل المدني بداية هذه الكتابة.الزيارة التي كان يمكن ألا تحدث لو اتخذت حياتها نسقًا آخر. كانت تحتاج إلى هذا المستخرج من شهادة ميلاد أبي لإتمام إجراءات المعاش الذي أرادت الحصول عليه بعد طلاقها. أعطتني الورقة الرسمية لأطّلع عليها فشعرت عند قراءة اسم أبي كاملًا للمرة الأولى أنه أعيدت ولادته ثانية بعد ثمانية وثمانين عامًا من ميلاده الأول، وبعد أربعة عشر سنة من موته الذي أنهى حياة عمرها المخادع أربعة وسبعين عامًا. "بدأ أبي حياة جديدة الآن" قلت في نفسي بألم يمزج بين أحاسيس غير متناقضة: الشغف، الارتباك، الحسرة، الخوف، السرور، الندم، السخرية بينما أفكر فيما ستصير إليه هذه الكتابة. لقد توقف التثبيت اللغوي لتلك البصمة العائلية عندي أنا وإخوتي: لدي طفلة، أما أخي الكبير فلم يسم أيًا من ابنيه على اسمه، بينما لم ينجب أخي الأكبر قبل موته. بناءًا على المنطق الذي يتخذه هذا النهج من التشابهات فقد كان لزامًا على أي من أبناء أبي أن يُعطي اسمه لواحدٍ من أولاده، والذي سيكون عليه بالتالي أن يُكلف أو يوصي ابنه بتسمية الولد الذي سينجبه بنفس اسمه حفاظًا على هذا الإرث من العطل. كان أبي هو المسؤول عن حماية هذا المسار الذي لن يكون صادمًا لو تم اكتشاف أن التمسك به يسبق الجد الثالث. أبي هو الذي حمل اسم أبيه من بين شقيقين، ومع ذلك لم يطلب أو يحاول أن يأخذ عهدًا من أحد أبنائه الذكور باستكمال الرحلة. كأنه أراد أن يتوقف الأمر عنده، أو لم يكن مهتمًا به، أو لم يكن يرى في أي منا جدارة ما بحماية هذا التاريخ، أو أنه ـ وهذا هو الاحتمال الأقرب ـ كان يعتبر أن حضوره الأبوي، وما سيتركه من هذه الأبوة داخل أبنائه لا يحتاج دليلًا من اللغة على بقاء أجدادي.
بعد خروجي من بيت العائلة متجهًا إلى منزلي رحت أفكر في أن هذا الاسم الذي قرأته في مستخرج شهادة الميلاد أكثر اتساقًا مع شخصية أبي من اسمه المجتزأ. إنه أشبه بتناسخ إلهي. بسلطة أبوية تسلّم نفسها لإثباتات متعاقبة من الخلود. هذا ليس اسمًا، وإنما صف من المرايا المتعددة لا يمكن الخطأ أو التغافل عن الانطباع الذي ينطوي عليه بضرورة أن يستمر في التزامه بنفس السياق التأكيدي. أن يضاعف كل أب نفسه ثم يأتي دور اسم جديد من الأبناء ليقوم بنفس المهمة، ربما لأنه لن يمكن كحذر اجتماعي وتاريخي ـ للأسف ـ أن يحمل جميع الجدود والآباء والأبناء اسمًا واحدًا. ربما أقصى ما يمكن تحقيقه هو انتقال الإثبات المختلف للأبوة من زمن لآخر، كأنه تيار من التجذر الصلب يسري عبر الأجيال في عائلة واحدة. تصورت بشكل عفوي لو أنني أنجبت ولدًا واسميته "ممدوح" لأصبح اسمه كاملًا "ممدوح ممدوح رزق رزق سعيد سعيد". سيبدو هذا الاسم كسباب لنفسه وللآخرين. كإيحاء بمرض عقلي وراثي. كمزحة تجاوزت حدودها الآمنة. كان من الغريب والملفت للغاية أن القوة التكرارية لاسم أبي تصلح أيضًا على نحو مضاد ـ ودون أن يلحق بها أي ضعف ـ أن تكون إقرارًا بهشاشة الفكرة الإلهية عن الرجال الذين يسكنون هذه القاطرة الاسمية. يناسبها أن تبدو كتلعثم لسلطة أبوية لا تثق في خلودها. يصلح اسمه أيضًا كفضح للتخاصم والانفصال بين كل أب وابنه عن الآباء والأبناء الآخرين. في هذه اللحظة أدركت أن أقرب ما يمثله الاسم الكامل لأبي هو لعبة استخراج الفروق الدقيقة بين الوجوه المتشابهة، والتي كانت مادة ثابتة في مجلات القصص المصورة القديمة.
"
جزء من نص طويل قيد الكتابة"
اللوحة: Avenue of Poplars at Sunset, 1884 ،Van Gogh
أنطولوجيا السرد العربي ـ 7 إبريل 2018