الجمعة، 7 أبريل 2017

لاهوت الشر

مهاجمة اللغة 
لا أتصور أن كاتبًا انتهاكيًا، أي ذلك المسكون بشيطان التقويض يعيش حياة من التآلف مع اللغة التي يكتبها. يقول (بروست): (إن الكيفية الوحيدة للدفاع عن اللغة هي مهاجمتها .. كل كاتب مضطر لأن يصنع لنفسه لغته). لكن الدفاع عن اللغة في حد ذاته، كاحتياج يسبق الاضطرار إلى صنع لغة خاصة هو فكرة تمثل موضوع العالم، أو الضرورة البديهية الوحيدة التي يتم الخضوع إليها بشكل عفوي تمامًا. إنها الخطوة الحتمية المضادة للعدم؛ إما أن توجد هناك (حيث يبني الموت نفسه بواسطة الكلمات)، أو لا توجد أبدًا.
تتحدث (باتريشيا فيرناندز) عن الفيلسوف الأمريكي (ريتشارد رورتي):
(بالنسبة لرورتي، ليست اللغة مجرد وسيط بين الذات والواقع. للغة، بالأحرى، دور تأسيسي في الفكر: تحدد طريقة تفكيرنا. توافر كلمات معينة وقواعد محددة، على سبيل المثال، يقرر كيفية تفكيرنا بخصوص الواقع. واستخدام اللغة مطلق الوجود. لا نستطيع النفاذ إلى الواقع بغيرها. يعني ذلك أننا لا نستطيع معرفة ما إذا كانت اللغة التي نستخدمها تمثل العالم بدقة. باستخدام تعبير هيلاري بوتنام، ليس بمقدورنا الخروج عن اللغة لننظر إلى العالم من "وجهة نظر العين الإلهية").
يتطلب مهاجمة اللغة فهمًا لنوع من المراوغة القادرة على تأمل ذاتها. تصديقًا مبدئيًا للوعود الميتافيزيقية، أي الإيمان مؤقتًا بما تدعيه الكونية المفترضة للغة. كأنك بصدد الوصول إلى حالة دائمة من التناغم المتنظر مع ما تنطوي عليه كسلطة. يبدو لي أن هذا هو السبيل الملائم والمعقد لتعميق (الصراع)، أي ما يجدر أن يكون السمة الصحيحة للعلاقة مع الألفاظ. الكتابة حينئذ تكون إدانة ضمنية لنفسها، إيحاء بخيبة الأمل، كأن الكاتب لا يمرر وعيًا بل صيغة مرتبكة من الاستغاثات. إشارات عسيرة بأن الأمر ليس هكذا حقًا، وأن ثمة حرمان أصيل من الوجود المثالي للذات داخل مفردات لا تعمل إلا بكيفية مشوِّهة. هو شعور شخصي بالدرجة الأولى، أي أنه قد يبقى عالقًا داخل بصيرة الكاتب دون أن يمتد كقوة تأثير خارجها، بل قد يُجابه بإدراك مناقض لآخر / قارئ يحوّل اضطراب ما وراء الكتابة إلى (صلابة جمالية) لشخص / كاتب (يستوعب تمامًا ما يريد أن يكتبه، ويعرف الطريقة المناسبة لفعل ذلك). إنه الإدراك الذي لا يتحصن الكاتب نفسه بحماية ثابتة من الاستجابة للذته، بناءً على دوافع ستظل مؤقتة في مواجهة الزمن، ودون تعطيل لخيبة الأمل. هنا تكمن الاحتفالات المتنقلة بما هو متمنع، معجِز، بما هو ليس بمعرفة حتمًا وإنما بالأداءات المتغيرة للجدل، بالتفاوض المحسوم سلفًا مع الخذلان. بتراكم الامتنان لتلك المقدرة على تأمل الفقد مع كل استعداد لتصور أن بوسعك امتلاك شيء ما.
في إحدى المحاضرات عن السرد تحدثت عن أن الكتابة ربما تسعى لتعيين تعريفًا جوهريًا لها من خلال هزائم اللغة. أنها لا تعيش داخل الكلمات، وإنما في ظلالها الغامضة، في الارتباك المبهم لنقصانها، في الصدوع الملغزة داخل كل تقمص، في الإبهام المحيط بالأماكن والأزمنة التي وضعتها كبدائل لذاتي في الحكايات، في الفراغات المجهولة بين جسدي اللغوي وجسدي الأرضي، في عدم القدرة على الإجابة على الوجهين الساديين للاستفهام الإذلالي: (ما الذي حدث؟، ما الذي لم يحدث؟)، في انعدام الثقة تجاه أي إجابة محتملة. إن هذا التعريف يتمثل في المرئيات والمسموعات التي لا تمت لأي لغة بصلة كما وصفها (جيل دولوز)، التي ليست خيالات موهومة، وإنما أفكار حقيقية يراها الكاتب ويسمعها في ثنايا اللغة وفجواتها، وهي ليست توقفات عن الحركة، وإنما محطات تشكل جزءًا منها كخلود لا يتجلى إلا في الصيرورة، وكمنظر لا يظهر إلا في غضون الحركة، فهي لا توجد في مكان خارج عن اللغة، وإنما تشكل خارج اللغة.
موسيقى الكتابة
أفكر الآن في المرئيات والمسموعات (التي لا تمت لأي لغة بصلة) عند (دولوز) في ضوء الرؤية الفلسفية لـ (شوبنهاور) عن الموسيقى. إن (الأفكار الحقيقية ـ ليست خيالات موهومة ـ التي يراها الكاتب ويسمعها في ثنايا اللغة وفجواتها) هي أقصى درجات القرب بين (الكتابة) و(الموسيقى). هذه المرئيات والمسموعات هي ما يمكن اعتبارها كينونة مضادة لأي نوع من التجانس الهارموني والإيقاعي للكلمات والتراكيب اللغوية المتعينة داخل النص. الأفكار التي لديها نفس الطابع التجريدي للموسيقى، الأقل ارتباطًا ـ وفقًا لشوبنهاور ـ بأي معنى ظاهراتي، وهي بالتالي أقوى أشكال التحرر من الإرادة (الشر) نحو تأمل هذه الإرادة في ذاتها. إذا كانت هذه المرئيات والمسموعات هي نتاج (مهاجمة اللغة) أي (نية التحرر منها)، وإذا كانت تعادل بنائيًا (الموسيقى) بوصفها تحررًا من (الإرادة) كشر؛ فإن اللغة هي الإرادة، أي الشر الذي يُقصَد الخلاص من عبوديته بواسطة الكتابة (الثنايا والفجوات)، بالضبط مثلما تستهدف الموسيقى الانفلات من سطوة (الإرادة).
في قصتي القصيرة للأطفال (الكلمات الممسوحة) تنتقل الكلمات والحروف الخاطئة المكتوبة بالقلم الرصاص التي يمحوها ولد صغير من كراساته وهوامش كتبه إلى لغة يستخدمها ولد آخر (خيالي) هو نسخة من الطفل الذي يمسح الحروف والكلمات ويحمل نفس إسمه، وذلك أثناء تنقله بين العوالم والأزمنة الساحرة المختلفة التي يحلم الولد (الواقعي) بالسفر إليها. منذ كتابة هذه القصة والشعور بضرورة إعادة كتابتها ـ خارج الحدود الطفولية، أو داخلها بكيفية مغايرة ـ لا يفارقني مطلقًا. كأنه حلم سري بسعادة مضمونة يتجهّز للتحقق. لكن إعادة كتابة هذه القصة ـ كما أعتقد حتى الآن ـ ستتخذ ـ من ضمن تغييرات أخرى ـ مسارًا عكسيًا؛ إذ ستتبادل الكلمات والحروف مواقعها؛ فما سيتم محوه هو الكلمات والحروف الصحيحة. إنه تأكيد على العداء الأوديبي لأبوية اللغة، الانتقام الذاتي من الخذلان في مواجهة لاهوت الألفاظ. كان التفكير في (الأخطاء) المقصودة داخل القصة يتعلق بالآثام التشكيلية للكلمات، بقدر ما يشير أيضًا إلى القواعد، وإلى تلك الكلمات المتنافرة مع محيطها، أي القادرة بشكل من الصدام والتخاصم على إفساد الفهم والإنسجام لما يُفترض أنه سياق محكم. في إعادة كتابة القصة ربما سيتم التركيز على أخطاء القواعد وتدنيس النسق اللغوي أكثر من جروح التشكيل، وفي ذلك شكل من الخضوع اللازم للغة عند مقاومتها. في القصة الأولى لم يكن هناك تحديد لماهية الآثام التي يتم مسحها وهو ما كان يُبقيها متاحة كليًا للتخيل دون قطع الطريق الذي يمكن أن تسلكه هذه الفكرة نحو الإدراك، أما في القصة الثانية (إعادة الكتابة) عندما يتم محو الكلمات والحروف الصحيحة، وتحويل الآثام إلى متن فهناك حتمية لاستخدام كلمات صائبة تشكيليًا بقدر الإمكان، تفاديًا لخسارة الاستيعاب ـ أو تقليصًا لاحتمالاتها المتوقعة ـ الناجمة عن تخريب رموز التفاهم المتفق عليها داخل النظام المهيمن للغة. يخطر في بالي على سبيل المثال الغرابة التحريفية لتقاليد الكتابة عند (جيرترود شتاين)، والتلاعب بالتراكيب اللغوية في أعمالها، كأنها إعادة إنتاج للإشارات المتناثرة في اللاوعي، أو كأنها تصوغ أدبيًا تمييز (جاك لاكان) بين (تصورات الكلمات) التي تشير إلى النظام ما قبل الشعوري، و(تصورات الأشياء) التي تشير إلى اللاشعور، أي التمييز بين تطابق الدال والمدلول، والدلالات الخام المفتوحة لكل المعاني.
الصمت
(وألطف الشعر يفقد سحره مع الزمن. حتى بالنسبة للإنسان الذي كتبه. لكن هذا هو أقرب ما يمكن أن تصل إليه متعة الخالدين في عالمنا هذا غير الكامل) .. هكذا كتب الناقد الإيرلندي (فرانك أوكونور) في كتابه (الصوت المنفرد)، وهي كلمات تحمل تهذيبًا كبيرًا؛ ذلك لأن جانب من فقدان السحر يرجع إلى الهوية التي تمثلها اللغة، لآباء هذه اللغة، وبالتالي لكافة القوالب المقدسة المنذورة لحمايتها وتطويرها. إننا نستطيع أن نُعرّف اللغة من خلال القمع الذي يمارسه الماضي بواسطة (التبرير الثقافي) لسلطة المجتمع أو ما يُسمى كذلك. حروبه التي تخلق أجسادنا، ومن ثم تنتج النصوص (المقاوِمة) التي لابد أن تنتهي شجاعتها عند حد ما، ذلك الحد يخص الهوية، الآباء، ثقافة المجتمع، الذاكرة التي لم تبدأ بأفكار وإنما بعقائد. هذا ما قد يجعلنا نتساءل مع (زهير الخويلدي) في سياق تحليله لـ (هانز غادامير): (من رهانات الفلسفة الهرمينوطيقية عند غادامير هو جعل الفهم شرط إمكان التفاهم بين الذوات وملاقاة العالم والانتماء إلى الفضاء اللغوي المشترك عن طريق الحوار والمحادثة وتبادل الأسئلة والأجوبة، لكن ما الذي يعطي للغة القدرة والضمانة على إتقانها لفن الفهم؟ أليس الكلام حمال أوجه واللغة محاطة بالرغبة والسلطة؟ ألا يدعونا عجز اللغة إلى ممارسة النقد الإيديولوجي على الكلام المتداول كما يرى هابرماس؟). لكن النقد الإيدلوجي لن يكون منفصلا عن الكتابة من حيث الإقامة داخل (الظلال الغامضة)، و(الصدوع الملغزة)، و(الفراغات المجهولة) أو ـ بالعودة إلى (جيل دولوز) ـ الثنايا والفجوات؛ أي أن النقد الإيدولوجي ـ بطريقة أخرى كممارسة لغوية ـ سيمضي في سبيل تبدده ـ مثل الموسيقى المعادلة للثنايا والفجوات ـ أمام (الصمت). إنه الشيء الذي يبدو أكثر حالات الجسد إنعزالا عن اللغة وأكثرها ـ بالمعنى العقابي ـ رضوخًا لها. الصمت هو الإرادة تتفحص شرها، المسافة بين الكلمات ومحوها، اللاشعور ينظر في عينين عمياوين، أقصى درجات التيقن من عدم حيازة وجهة نظر العين الإلهية. الصمت كجوهر وقناع لكل ما هو متمنع، مُعجِز، أي ما هو ليس بمعرفة، ولا يمكن تفكيكه، وكشف دوره في الكذب كما ذهب (جاك دريدا) في (تاريخ الكذب).
ماذا نعرف عن أزلية اللغة: (الخليل بن أحمد)، (الرازي)، (ابن خلدون)، (ابن الحاجب)، (الإسنوي)، (دي سوسير)، (آرييل مانتو) بطلة رواية (نهاية السيد واي) لـ (سكارلت توماس): (هل يمكن خلق شيء ما في اللغة بشكل منفصل عن مستخدميها؟ هل يمكن أن تصير اللغة نظامًا يتوالد ذاتيًا ...) .. هكذا يمكن أن نفكر في أبدية محسومة للاهوت الشر.
مجلة (تراث) ـ إبريل 2017
اللوحة لـ Fabian Perez