الاثنين، 10 أبريل 2017

القصة القصيرة ... الحياة في موت الآخر

يمكن اعتبارها إحدى طرق التفكير الجمالي في الموت؛ إنها القصص التي تحاول بواسطتها الذات أن تخلق حياتها باستخدام الآثار الناجمة عن موت الآخرين. ينطوي هذا الإيجاد على ما يتجاوز استعادة الماضي، سواء ذلك الذي اشترك في تكوينه الذات الحية والآخر الميت، أو ذلك الذي تسعى الذات لاكتشافه بوصفه ذاكرة مستقلة لها. سيمتد الخلق أيضًا نحو بناء علاقات جديدة بين الذات التي تُشيّد الحياة والآخر الذي يساهم بموته في ذلك الخلق، كما سيمتد أيضًا إلى حياة من المتغيرات لن تظل ظواهرها مقترنة بصور مباشرة للذات الحية مع هذا الموت للآخر وإن كان سيظل أساسًا لها.
تتحدث (ليديا ديفيس) في قصة (وبر الكلب) عن وبر الكلب الميت الذي لا يزال موجودًا في أرجاء المنزل وعلى ثياب أصحابه الذين لم يرموه لأن لديهم أمل جامح أنهم سيكونوا قادرين على استعادة الكلب من جديد لو جمعوا قدرًا كافيًا من هذا الوبر. تفكر (ليديا ديفيس) في موت الكلب من خلال أثره (الوبر)، والذي أعطته القصة إمكانية استخدامه في استرداد هذا الكلب. لكن الكلب الذي يتم تأمل استعادته بهذه الكيفية لن يكون فقط هو ذلك الكلب المفتقد، الذي كان ينبح حينما يرن الجرس أو عند وصولهم إلى البيت متأخرين، كما أنه لن يكون الكلب الذي كان يمكن لكل فرد منهم أن يتمعن في حياته الشخصية من خلال وجوده فحسب، بل سيكون كذلك الكلب الذي ستكشف استعادته عن صلات أخرى مع أصحابه، ربما لم توجد أو لم تكن واضحة حينما كان حيًا، كما أنه سيكون أيضًا هو الكلب الذي يعطي لكل فرد منهم دوافعًا غير مسبوقة للاشتباك مع عالمه الخاص دون سيطرة على التحولات التي يمكن أن يتخذها. الذات هي التي تحاول إذن استعادة حياة أخرى لها من الموت بواسطة وبر الكلب.
نفس الأمر نجده عند (رافاييل فالكارسيل) في قصته (كلمات أخريات) وإن كان على نحو أكثر مباشرة؛ فبطل قصته (سيزار لينو) كان يسكن في طفولته أمام مقبرة وهو ما جعل ألعابه تنتقل من تعداد الأسماء المتكررة فوق القبور، إلى التواريخ المتشابهة، ثم إلى التي تتصادف مع تاريخ ميلاده حتى ابتكر بعد مرور السنوات طريقة لإبداع القصص وذلك بأخذ كلمة من كل لوحة فوق قبر ليشكل منها جملًا ويربطها بكلمات أخريات مكتشفًا بذلك مئات الحكايات. إن الكلمات المأخوذة من لوحات القبور في قصة (رافاييل فالكارسيل) هي نفسها وبر الكلب في قصة (ليديا ديفيس) مجسدًا في لغة؛ فـ (سيزار لينو) لا يعرف عن الموتى سوى هذه الكلمات، وهو ما سيقوده إلى إيجادهم وتكوين علاقاته بهم من خلالها قصصيًا، وبالتالي إلى خلق حياته بواسطة هذا الإيجاد. سنلاحظ أن عنوان قصته لم يكن (كلمات القبور) وإنما (كلمات أخريات) وهي تلك الكلمات التي كان يربط (سيزار) بينها وكلمات القبور، أي الكلمات التي تخصه، وتحمل ذاكرته أثناء المضي في طريقها (الكتابة) لاكتشاف ماضيه، وتشييد اللحظات التالية بخطوات لا يمكن توقعها.
إن القصة القصيرة بهذا الشكل تمثل محاولات مستمرة لمعرفة الذات والآخرين بواسطة الفناء الجسدي، العثور ـ ربما في ظل شروط أفضل ـ على المفاتيح القدرية للحياة والموت، التوصل إلى ممر سري للخلود. يتكفل التكثيف ـ خاصة في حالته القصوى كما في القصة القصيرة جدًا ـ بضمان حرية هذه المحاولات من خلال ترك أكبر مساحة ممكنة للتخييل. يضع هذا الاقتضاب اللعبة في يد الأطياف غير المستقرة للوعي لإبقاء احتمالات النجاة مفتوحة إلى أبعد حد ممكن. إنني أتصور أن السطر اليومي الذي يكتبه الراوي من الرسالة الطويلة التي يشرح فيها منذ أربعة عشر عامًا أسباب انتحاره في قصة (الرسالة) لـ (لويس ماتيو دييث)، أتصور أن هذا السطر يحمل كل يوم إدراكًا متزايدًا للموت، خضوعًا حتميًا له، وفي نفس الوقت يوثق اكتشافه لـ (كلمات أخريات) داخل هذا الموت سيستعملها في كتابة السطر الجديد صباح اليوم التالي.
جريدة (القصة) ـ العدد السادس إبريل 2017