الأحد، 2 أبريل 2017

حارس الفيسبوك‮:‬طقوس العقاب

اتبع شريف صالح في روايته "حارس الفيسبوك" الصادرة حديثًا عن الدار المصرية اللبنانية استراتيجية يمكن تسميتها بـ "التصاعد المعاكس" حيث يبدأ السرد من حدثه الأخير، أي الفصل رقم 36 والذي يحمل عنوان "تقرير موقع "فيروس"" ثم يأخذ مسارًا مضادًا حتي الفصل رقم 1 الذي يحمل عنوان "يوم القيامة الافتراضي". هو تصاعد لأن كل خطوة داخل هذا السياق تأخذ شكلا تراتبيًا كاشفًا لما لم يكن متعينًا في الخطوة السابقة، كما أنه معاكس لأن السياق يخلو من الانقطاعات الزمنية التي تُعطّل تدفقه من النهاية إلي البداية، وهو بذلك يختلف عن "الفلاش باك" حيث أن الماضي ليس مستعادًا هنا داخل لحظات فاصلة من الحاضر "راهن السرد" ستواصل علي إثره التقدّم نحو المستقبل لتستكمل التسلسل المنطقي للأحداث.
إذا أردنا تحليل هذه الاستراتيجية التي اتبعها شريف صالح فإن بإمكاننا تحديد وظائفها الجمالية فيما يلي:
أولا: إنها لا تجعل من "القيامة الافتراضية" نبوءة مستقبلية في الوعي بل حدث تم في الماضي أو تحديدًا في خفاء الماضي إذ يخلو الحاضر "هنا والآن" من توقع حدوثه أو من الترتيبات التي تمهّد لحدوثه رغم أن الوجود الحالي للكينونة قد تحقق بفضل هذا الحدوث السابق والمعمي.
ثانيًا: إن هذه القيامة ليست حدثًا مستقلا منفصلا عن ظواهرها ـ التي تبدو كتمهيد لها وكنتائج ناشئة عنها في نفس الوقت ـ حيث يُعاد إنتاجها كصيرورة تكوّنهاالتحولات مختلفة التفاصيل لشخصيات مستخدمي الفيسبوك وعلاقاتهم.
ثالثًا: لا تضع هذه الاستراتيجية ما أُطلق عليه "القيامة الافتراضية" داخل ما يبدو أنها "الأحداث الكبيرة والفارقة في الواقع" وحسب، بل تتحكم في متغيراتها ـ وبشكل أعمق ـ ما يُعتقد أنها أداءات أقل تأثيرًا مثل "اللايك" وكتابة "البوست" والتعليقات والرسائل والمحادثات ... إلخ. كل فعل "فيسبوكي" هو إشارة القيامة وتجسيد لحتميتها، كما أنه محرّك الإنهيار للصور المماثلة لدي الآخرين الذين يشتبك مع حيواتهم من خلالها. إذا تعاملنا مع هذه الممارسات الافتراضية بوصفها أدوات سلطة فهذا إنما يرجع إلي طاقتها التدميرية التي تنتشر عبر العناصر المتواطئة داخل العالم الذي يقدم نفسه كطبيعة "تواصل".
رابعًا: تعتبر الصيرورة هنا نوعًا من قراءة التاريخ المتجاوز للحدود الافتراضية في ضوء هذه "القيامة"؛ إذ ستكف شخصيات الرواية عن أن تكون تمثيلا لذواتها بل ستتحوّل إلي احتمالات تجريبية للذاكرة التي تنتمي إليها. إلي أشلاء لمطلق يراقب ويعدّل ويطارد المعاني داخل الصور التي تحاول تجسيده وهي تقاومه ـ غريزيًا ـ في الوقت نفسه. تتجرد الشخصيات من ثباتها القيمي، ولا تُكرس لمعرفة بقدر ما يمكن أن تكون القيامة الافتراضية وسيلتها للمحو وللتفاوض علي سُبُل متخيلة للهروب من أنساق اختزالية تم تفتيتها سلفا قبل أن تُعاش ـ بصدق تام ـ كهويات أصيلة للوجود.هكذا يمكننا أن نعطي التعريف الأشمل للقيامة، وبالتركيز الضمني والأساسي علي الطابع العقابي لها.
""يوم القيامة الافتراضي" كما أطلق عليه المستخدمون. فجأة اختفي كل شيء تحت سيل الإعلانات. نقاط زرقاء راحت تتحرك فوقها أيقونة بحجم فراشة، تشبه امرأة عارية. وقد حذر خبراء أمن المعلومات من أيقونة تلك المرأة الزرقاء؛ لأنها تحمل فيروسًا بالغ الخطورة".
إن الأبواب الزرقاء التي نعبر من خلالها نحو مصادفات الفيسبوك ليست مجرد وسائط، وإنما عقول اقتحامية تتشكل أفكارها في أجساد مستخدميها؛ وبالتالي فإن هذه الأجساد حينما تعود إلي "الواقع" لن تكون مشاعرها هي تلك التي كانت عليها قبل هذا الاقتحام، بل ستحصل نتيجة لذلك علي أفكار عقلية جديدة. بمساءلة الميتافيزيقا؛ هل كان يمكن لـ"سبينوزا" علي سبيل المثال وفي هذه النقطة تحديدًا، باعتباره العقل والجسد صفتين لجوهر واحد، أن يتوقع قابلية ذلك الجوهر لتصدع كهذا، أو للكشف عن تصدعه بواسطة هذه الأبواب الزرقاء؟. إن هذا الاستفهام لا يتعلق بمستخدمي الفيسبوك، بقدر ما يتعلق بالأنقاض الميتافيزيقية التي بُنيت عليها فكرة الفيسبوك نفسها.
"من وحي هذه الحالة كان أول ما كتبه في صفحته الجديدة مقطعًا مما يسميه "شعر إلكتروني" .. طالما يوجد مخبر إلكتروني وحب إلكتروني فلماذا لا يكون هناك شعر إلكتروني؟! "الفيسبوك يأكل دماغك بهدوء / وإذا نسيت "الباسوورد" / سوف يغتالك / ثم يخترعك من جديد / يخلق منك نسخًا لانهائية / مثل صانع مفاتيح / يهدي الآخرين كل المفاتيح المحتملة / للوصول إليك"".
بالعودة إلي الطاقة التدميرية لأداءات الفيسبوك ربما علينا أن نقوم بتشريح هذا الرابط بينها والتحظيرات الفرويدية؛ فالواقع "اللافيسبوكي" ـ إذا جاز لنا أن نطلق عليه كذلك ـ مع الخلخلة القهرية لما يُسمي بالواقع الافتراضي قد أصبح بمثابة بنية انتهاكية لنفسه، تحكمها الخبرات العدائية المتصارعة لتشتيت الأنماط أو لما يسعي لأن يكون نمطًا، وبالتالي ـ وهنا يكمن ما أراه جوهر العلاقة بينها والتحظيرات ـ تتحوّل إلي بنية فضح للتحظير والميل في نفس الوقت. كأن "الفيسبوك" ـ وهو ما يمكن ملامسته في الرواية ـ قد أصبح لا شعور الواقع، أي أنه فضاء مفتوح"كولاج متناثر" من التحظيرات والتطهيرات واللذة، ومن هنا، وبواسطة القيامة الافتراضية في "حارس الفيسبوك" يمكن تتبع الطرق العديدة لعمل "الكبت" أي تنحية اللذة من "الواقع" إلي "الرسائل والمحادثات" قبل استردادها ثانية، وهو ما يضمن استمرار التحظير والميل في الوجود. إن الطبيعة المتشظية للعالم الافتراضي التي تعامل معها "شريف صالح" قد تطابقت علي نحو ملفت مع "الموقف الازدواجي" للفرد أو محاولات تسوية التعارض بالمعني الفرويدي بين الفعل والخوف من الفعل واستبداله بأفعال بديلة، كأن متاهات الفيسبوك ليست أكثر من الخطوات والأهداف المتفاوتة "ربما تتدرج بحسب القوة المباشرة أو الرمزية للصور الواقعية والمزيفة، وكذلك للغة المستخدمة بحسب مرورها في الصفحات الشخصية أو العامة" التي يخطوها الليبيدو المكبوت من "الواقعي" إلي "الإفتراضي". هل "الفيسبوك" هو الفضاء الأقل عدوانية الذي تخفت خلاله حدة التحظير في القيام بتشديد جديد أثناء مقاومة الرغبة له؟. ربما يمكن للرواية أن تعطينا إلهامًا للإجابة علي هذا الاستفهام من خلال العنف "خارج" الفيسبوك أكثر مما هو داخله.
"ولم يكن علي نجيب ليفوت فرصة المشاركة في "الهاشتاج": "اسمحوا لي بسؤال يا أصدقائي: لماذا يستثار فضولنا لدخول الموقع كل لحظة وكتابة كل ما يدور في وعينا؟! أليس ما نمارسه أشبه بعرض "إستربتيز"؟! كل منا يمارس رقصته المفضلة".
هناك نوع من المشابهة العامة في طبيعة الاستجابات لدي شخصيات "حارس الفيسبوك"، فهم ـ رغم ما قد يظهر كتباين في سلوكياتهم ـ يبدون كأنما ينفذون أمرًا ما، يؤدي كل منهم دورًا خاصًا ومنسجمًا مع الأدوار الأخري لإنجاز مصير قدري عام، ومحدد. هذا المصير ـ إذا تم تعديل مسار السرد ليأخذ الشكل التقليدي ـ ليس سوي القيامة الافتراضية التي لا يخلقها الارتجال العشوائي وإنما طقوس ستظل مبهمة. هل هي نماذج من الطقوس التطهيرية المراوغة والمستترة أحيانًا، التي يتم التكفير عن انتهاك التحظيرات بواسطتها كما أشار "فرويد"، ولكن بمنحها المزيد من التناقضات أو ما يُعتقد أنها كذلك؟. حسنًا، لنفكر في ما الذي يمكن أن تصير إليه هذه الطقوس التطهيرية مع هذا الدمج بالمتناقضات، والذي يجعلها في حالة مراوحة دائمة بين التردد والتمادي والتراجع. لنسترجع لوحات "عبد الهادي الجزار" مثلا ونقارنها بمشاهد رواية "شريف صالح" فربما نكتشف ماهية هذا التطهير. إن "حارس الفيسبوك" تقدم بطريقتها حِسّا عصريًا، مقاربًا تمامًا للطقوس الأسطورية الشعبية التي تحملها لوحات "عبد الهادي الجزار"، والمنطوية علي نفس الفكرة الملغزة "التطهير". الفكرة التي لا تسلم نفسها إلي اتجاه واحد، بل إلي تنافرات افتراضية. كأنه توسيع مستمر لمفهوم "التطهير"، حيث يمكن من خلاله أن يكون الفعل المحرّم نفسه جزءًا منه، ولا يرجع ذلك سوي لأنه يخاطب احتياجًا للتطهير أبعد مما هو ناجم عن التحريمات التقليدية. الاحتياج الذي يجابه بالعقاب "القيامة" في كافة الأحوال. إنها الفكرة التي تجمع بين ما هو غيبي وسحري وشبقي ومقدس. هذا ما يجعلني أفكر في أن الرواية هي الشكل الذي يقترح "شريف صالح" بواسطته تصورًا عما الذي يمكن أن يكون عليه الحال لو أصبح لشخصيات "عبدالهادي الجزار" حسابات علي فيسبوك.
جريدة (أخبار الأدب) 4/1/2017