السبت، 21 ديسمبر 2024

الحبكة المحتالة: انتقام شرلوك هولمز للطبيب آرثر كونان دويل


 رسم توضيحي لويليام هايد في مجلة هاربر ويكلي (12 أغسطس 1893)

ما الذي يجعل رجلًا كالسيد بلسينجتون، ذا “قلب معتل”، أن يختار طبيبًا متخصصًا في مرض “جمود العضلات” لكي يموّل عمله ويستأجر له منزلًا ويشتري أثاثه، ويدفع كذلك تكاليفه الشخصية كافة كل أسبوع ثم يعيش معه لأنه يحتاج أن يكون دائمًا “قرب طبيب”؟ .. هل الجوائز التي حصل عليها الطبيب في مجال “الدماغ” تعد مبررًا كافيًا لأن يقدم السيد بلسينجتون له ذلك العرض بالغ السخاء، في حين أنه كان بوسعه أن يستثمر أمواله في مجال آخر لا يتعلق بـ “مرض نادر”، فضلًا عن تقديم هذا العرض لطبيب متخصص في العلة التي يعاني منها السيد بلسينجتون بالفعل؟ .. لماذا زار الروسيان المنزل في البداية أثناء وجود الطبيب وهما يعلمان بغياب السيد بلسينجتون عنه في ذلك الوقت بوصفهما ابنًا شابًا يرافق أباه العجوز المريض بجمود العضلات، في حين اتضح بعد ذلك أن لديهما القدرة على التسلل إلى المنزل في غفلة من الطبيب لقتل السيد بلسينجتون اعتمادًا على مساعدة أحد الخدم كما جاء في تفسير شرلوك هولمز؟

نحن أمام حزمة من المعلومات غير المعقولة أدى التحايل في خلق ترابط بينها إلى تكوين “حبكة محتالة” وذلك لغرض محدد .. لص يعيش باسم مستعار، سبق له الاشتراك مع ثلاثة آخرين “الروسيان بيدل وهايوود وأيضًا رجل آخر تم شنقه” في جريمتي سرقة أحد البنوك وقتل حارس ليلي، ثم قرر هذا اللص مساعدة الشرطة وتقديم البراهين إلى المحكمة التي تدين رفاقه .. يعرض هذا اللص أن يُغيّر حياة طبيب متخصص في “جمود العضلات” وأن يسكن معه بدعوى أن “قلبه مريض” .. الروسيان “بيدل وهايوود” يقرران الانتقام من اللص الذى وشى بهما وبالآخر الذي تم شنقه فيذهبان أولًا إلى الطبيب في غياب هذا اللص كمريضين ثم يتسللا إلى غرفته وبعد ذلك يعودان إلى حجرة الطبيب متحججين بحالة التشوّش التي تملكت الأب العجوز وعدم إدراك الابن لها .. يعود الروسيان لقتل اللص بمساعدة الخادم.

لو تأملنا قصة “لغز المريض المقيم” جيدًا سنجد أن المعلومات كلها تعتمد على ثقة شخصين فقط “الطبيب” و”شرلوك هولمز” .. الطبيب يضع بداية القصة وشرلوك هولمز يضع نهايتها التفسيرية .. لا أحد غيرهما يمتلك أي إثبات موضوعي مستقل لكل ما يقدمانه كـ “حقائق مؤكدة” .. ماذا كانت النتيجة؟:

“لم يعاقب أحد لموت بلسينجتون. فقد غرق بيدل وهايوود في وقت قصير بعدئذ حين غرقت باخرة تدعى نوراه كراينا بعيدًا عن ساحل البرتغال. لم يكن هناك برهان كاف ضد خادم دكتور ترفيليان، لذلك لم يُتهم أبدًا، ولم تُقدّم قصة لغز شارع بروك كاملة إلى الجمهور حتى الآن”.

كأن آرثر كونان دويل قد دبر في هذه القصة تواطؤًا بين الطبيب وشرلوك هولمز على خلق هذه الحبكة ثم أخفى كل ما يمكنه كشف احتيالها .. دويل الذي وضع سيجارات في المدفأة لكي يكتشف هولمز أن بلسينجتون قد قُتل ولم يشنق، وجعل هولمز أيضًا يستخدم صورة بلسينجتون في التوصل إلى حقيقته ومن ثمّ إلى صلته بجريمتي سرقة بنك ومقتل حارس ليلي وبالتالي إلى هوية قاتليه، كما جعله يتوصل إلى تورط الخادم في مساعدة هذين القاتلين من دون اهتمام بعرض الأدلة التي قادته إلى ذلك؛ مع كل هذا اختار أن يموت الروسيان لا أن يُقبض عليهما ويعترفا بجريمتهما، وأن يستبعد أي برهان كاف لإدانة الخادم بالرغم من يقين شرلوك هولمز بتورطه في الجريمة .. كان بوسع آرثر كونان دويل أن يقدم تأكيدًا في النهاية لكل المعلومات التي وردت في هذا اللغز ولكنه مع ذلك أبقاها دون حسم، كأنه يستجيب إلى ما يمكن أن يعد جانبًا لاوعيًا من ذاته يعرف تمامًا أن الأمر يحكمه التلفيق.

إننا لو صدقنا ـ بشيء من المسايرة المقصودة ـ الظروف التي شكّلت علاقة الطبيب بالسيد بليسنجتون في البداية فإننا وفقًا للسياق المنطقي الذي قد ينجم عن هذه الملابسات سنجد أن الطبيب نفسه هو المستفيد من قتل السيد بلينجستون .. طبيب أصبح ناجحًا بفضل مساعدة السيد بلينجستون، ولكن في المقابل فإنه لا يحصل سوى على ربع ما يكسبه من مال ويأخذ السيد بلينجستون الثلاثة أرباع وهو ما ساهم في زيادة ثراءه .. لو اختفى السيد بلينجستون من الوجود ـ بسبب حادثة سرقة بنك قديمة وما نجم عنها من عواقب ـ فإن الطبيب سيحصل على ما يجنيه من عيادته كاملًا ودون أي نقص.

إن القصة حين نجردها من أحداثها الظاهرية ستبقينا أمام مواجهة مباشرة بين طبيب يلخص معاناته في الفقرة التالية:

 “لكن، أيها السادة، ليس لدي مال. الرجل الذي يريد أن يصبح متخصصًا يجب أن يعيش في المنطقة الغالية حول ساحة كافندش ـ هناك فقط حوالي اثنى عشر شارعًا محتملًا، والإيجارات عالية إلى حد مفرط! وعلى الإنسان أيضًا أن يستأجر حصانًا وعربة ويشتري أثاثًا لمنزله. كنت سأحتاج إلى عشر سنين لأكون قادرًا على توفير المال الضروري”.

… وبين رجل ثري أعطى الطبيب ما يحتاجه في مقابل الجزء الأكبر من دخله.

هذا ما يجعل التواطؤ الذي دبره آرثر كونان دويل بين الطبيب وشرلوك هولمز لا يتعلق بشخصيتي الطبيب والسيد بليسنجتون وإنما باحتياج العلم إلى المال وبرغبة صاحب العلم في التخلص من الملكية الانتهازية لصاحب المال؛ فلو كان الطبيب يمتلك كفايته الذاتية ما احتاج إلى تمويل السيد بليسنجتون لعمله، ومن ثمّ ما كان مجبرًا على التخلي عن ثلاثة أرباع عائد جهده إلى ذلك الرجل .. هنا لا يتم النظر إلى المعادلة السهلة التي تعيّن هذا التخلي ثمنًا منطقيًا مقابل ما منحه السيد بليسنجتون للطبيب باعتبار هذه المعادلة هي القول الفصل، ولكن المعيار الأساسي الذي له أولوية الاهتمام في هذه المسألة عند آرثر كونان دويل كطبيب عانى من الفقر والتبعية والفشل المهني هو الاستقلالية عن سلطة الآخر “الثري” .. المعيار الأساسي هو التحرر “العادل” الذي يوفر للطبيب ما يحتاجه من أجل عمله، دون اضطراره أن يقتطع النصيب الأكبر من دخله في مقابل ذلك .. لا يتعلق الأمر بالأخذ والدفع وإنما بالحصول على ما تعتبره حقًا أصيلًا لك دون شروط سوف ستحرمك من هذا الحق إذا لم تقبلها.    

من كتاب “الحبكة المحتالة” ـ قيد الكتابة


أيامي الأخيرة

 ادخلوا سريعًا أرجوكم. لا أعرف كيف حدث ذلك. نعم، من هذا الاتجاه. حجرة النوم في نهاية الردهة. أشعر بأني على وشك الإغماء.

احذروا من فضلكم؛ ما ستشاهدونه لن يكون محتملًا أبدًا. إنه أفظع مشهد يمكن أن تبصرونه في حياتكم على الإطلاق. زوجتي وابنتي الصغيرة! ماذا سأفعل الآن؟

انظروا! حدث كل شيء بسرعة مباغتة لا يمكنني استيعابها. كما ترون؛ كنا نجلس ممددين على السرير لنتناول العشاء ونشاهد التليفزيون. كل شيء كان طبيعيًا وروتينيًا للغاية. ابنتي كانت تجلس في المنتصف كالعادة؛ وجدتها فجأة …

يا إلهي، كيف يمكنني وصف بشاعة الأمر! وجدت ابنتي تمد يدها وتسحب من فوق صينية الطعام هذا السكين الذي تستعمله زوجتي لتقطيع الخبز ثم … لا أصدق أنها فعلت ذلك! غرزته بكل قوتها في صدر أمها. هكذا بلا مقدمات، ودون أن تنطق بأي كلمة. هل يمكنكم تخيل هذا! طفلة في الحادية عشرة من عمرها تقتل أمها بمنتهى العفوية واللامبالاة أثناء تناول العشاء!

كنت على وشك أن أقضم لقمة من ساندويتش الجبن الذي أحمله في يدي عندما رأيت هذا المنظر المروّع. تجمدت الدماء في عروقي، وتصلّب كامل جسدي، ومزقت الصرخة العاتية لزوجتي كل ذرة في داخلي. حتمًا سمعتموها جميعكم بوضوح. كان غريبًا للغاية، وداعمًا لقسوة الفجيعة أيضًا أن هذه الصرخة تطابق تمامًا تلك التي طالما تخيلتها تعيش وتنمو خفية في أعماق زوجتي طوال عمرنا معًا. الصرخة التي ربما منعت نفسها مرارًا من إطلاقها وهي تراقب الطيور من الشرفة كل غروب. اغفروا لي اضطرابي؛ فأنا أكثر الكائنات تجسيدًا للشقاء في هذه اللحظة!  

لم أكن أعرف أن هذا الكابوس الوحشي غير المتوقع الذي سيلازمني بقية حياتي لم ينته بعد. رأيت زوجتي أثناء احتضارها ترفع يدها وتنزع السكين من صدرها ثم بآخر ما لديها من حياة تغرزه في صدر ابنتي قبل أن يهمد جسدها تمامًا. لم تصرخ الطفلة كأمها. انفرج فمها المثقل ببقايا الطعام عن تأوه شاحب فحسب، يشبه ذلك الذي كان يمكن أن يصدر منها عند تعثر بسيط أثناء ركضها في حديقة ما وقت المطر. تأوه شاحب مقترن برعشة خاطفة. مجرد ارتجاف ضئيل غادرت معه الأنفاس الأخيرة جسد ابنتي الذي ارتمى فورًا على جانبه ليلتصق دون حركة بجسد زوجتي.

هل يمكنكم تصوّر ذلك!

يجلس أحدكم أمام التليفزيون لتناول العشاء مع أسرته ثم خلال ثلاث ثوان فقط يتحوّل سريره إلى مسلخ صغير، تشاركه فيه دماء جثتين كانتا أقرب البشر إليه وهو عاجز عن فعل أي شيء.

أخبروني أرجوكم؛ كيف يمكنني أن أعيش بعد الآن؟!

لم تكن بينهما أية مشاعر سيئة. هل يمكن أن تكون هناك ضغينة مخبوءة بين أم وطفلتها تؤدي بلا تمهيد إلى هذه النهاية الفادحة؟ إنه أمر لا يمكن لأكثر الأذهان جموحًا أن يستوعبه. كانت علاقتهما في منتهى الوئام والترابط، ولم يكن بالطبع لتلك الجدالات البسيطة أحيانًا أن تقود إلى هذه الكارثة بالغة الفظاعة التي تتمدد أمام عيونكم الآن. أتتم تعرفون بالطبع ما الذي يكون عليه الحال بين أم عصبية قليلًا وابنة صغيرة مدللة تميل في بعض الأوقات للعناد والتطلّب. لا يوجد تفسير مهما كان يقدر على الصمود أمام هذه المأساة الجسيمة دون حد، التي حوّلت حياتي في غمضة عين من الطمأنينة إلى العذاب. هو حتمًا مس شيطاني مجهول أصابهما معًا في لحظة واحدة. لعنة غامضة من الجحيم أفقدتهما الإدراك بشكل مفاجئ وامتلكت إرادتهما كليًا، ومن ثمّ ساقت كلًا منهما لقتل الأخرى. لم أكن أؤمن بمثل هذه الأشياء الغيبية، بل إنني كنت دائم السخرية من أولئك الذين يصدقونها. لكني بعد أن رأيت ما جرى هذه الليلة فإنني على استعداد لقبول كل ما كان يعد خرافة بالنسبة لي. نعم، أي هراء مناف للعقل ومهما كان متماديًا في عبثيته أصبح منطقيًا الآن أمام هذه المجزرة التي ستظل حية وتكرر نفسها في باطني على نحو متواصل حتى اللحظة الأخيرة من عمري.

لن يمكنني بلا شك البقاء في هذه الشقة. ينبغي أن أسرع ببيعها، وأتمنى ألا يعطل ذلك ما شهدته جدرانها في هذه الليلة السوداء. سوف أشتري شقة جديدة، وسيكون من الأفضل حتمًا أن تكون خارج المدينة.

لن أتحمّل بالتأكيد العيش وحدي مع ذكرى هذه المذبحة، ولذلك سأعاود الاتصال بإحدى طالباتي في ورشة القصة القصيرة. الفتاة التي كانت “تقتلني بنعومة” كما غنّى صديقي فرانك سيناترا، والذي استخدمت أغنيته في إخبارها بذلك ذات يوم بصورة غير مباشرة. صحيح أنها تصغرني بعشرين عامًا، وأننا لم نتحدث بأي شكل منذ انتهاء الورشة قبل خمس سنوات، فضلًا عن أنها تزوجت وأنجبت طفلًا قبل عام تقريبًا؛ لكن كل ذلك لن يكون بالأهمية التي يبدو عليها بالنسبة لهذه البنت حين تعرف بالمصيبة التي حدثت لي. أعتقد أنها ستتخلى عن كل شيء من أجلي، ولن تمنعها قيود العالم، مهما كانت، من تحقيق رغبتها في أن تعيش معي أيامي الأخيرة. ستكون هذه الأيام فرصة مناسبة بالضرورة لأن أواصل تدريبها على كتابة القصة القصيرة بالكيفية التي لم يسمح بها زمن الورشة القديمة.

لماذا تنظرون لي هكذا؟!

الصورة لـ joel peter witkin

الجمعة، 6 ديسمبر 2024

من نسق "الفقر" إلى فقر "النسق" / قراءة تفكيكية في المجموعة القصصية "حواديت محلية الصنع" لعلاء أحمد"

الملخص:

بقدر ما رأى النقد الأدبي في القصة القصيرة عبر التاريخ مجالًا لغويًا مفتوحًا للتحليل والتنظير حول موضوعات "القهر الاجتماعي" و"التفاوت الطبقي" و"التمييز الثقافي"، ومثلما استعمل في تلك المقاربات والاستقراءات المفاهيمية أعمالًا قصصية من الأدب العربي والعالمي، تحوّلت إلى نماذج متأصلة، تُستدعى ويشار إليها على المستوى البحثي والتداولي؛ بقدر ما تبنى نقد القصة القصيرة أيضًا العديد من التجارب التأويلية التي استندت إلى الرؤى التفكيكية لهذه الموضوعات بالاشتباك مع الطبيعة الوجودية لـ "السلطة"؛ أي الأسس الإدراكية المترفعة التي تجسد فرضياتها الصور اليومية المباشرة لـ "القهر" و"التفاوت" و"التمييز". اعتمدت هذه الرؤى على تقويض الدعائم الغيبية لـ "التسلط" التي تحدد "الحقيقة" وفقُا لشروطها المطلقة، وتجعل من "المعنى الاستعبادي" غاية استباقية للظواهر الواقعية المتغيّرة، تشكّل أبعادها وممارساتها السياسية والاقتصادية والعقائدية المختلفة كـ "فكر" يمتلك صفة البداهة، متقدم على "الفعل" الخاضع لحكمه المتحيّز، احتياجًا إلى ما يسمى "الإيمان". احتياجًا إلى كبت الرغبة التدميرية تجاه الذات التي تحتاج إلى "الإيمان".

"لقد بدأت التفكيكية مع جاك دريدا كمشروع إعادة نظر في الفلسفة الغربية وقد تشكّل هذا المشروع على أرضية معرفية تأسست تاريخيًا من مراجعات الفكر الغربي، التي تمت على ما يزيد من قرن من الزمان، بدءً بما قدمه نيتشه من رفض لما أقره الفلاسفة حول الحقيقة والجوهر، ومرورًا بما قدمه مارتن هايدغر من إعادة النظر بمفاهيم الميتافيزيقا وإصراره على أن مبحث الكينونة في الفلسفة الغربية إنما هو بحث في الكائن لا الكينونة، وكان تجاوز الميتافيزيقا والتفكير الميتافيزيقي هو محور محاولاته المتكررة، وبما قدمه ميشيل فوكو من طرح مشابه فيما جسّده من فكرة انحلال الأشياء في الكلمات، والنظام في الخطاب، وتمثل المعطى الجوهري الذي صدرت عنه طريقته، في نظرته إلى أن الحقيقة قد تقررت تاريخيًا على أنها نتاج ممارسة خطابية، حتى إن الذات هي نتاج "للممارسات الخطابية"، وانتهاءً عند دريدا فيما اختزله بهدم الثنائيات التي شيدت التكوينات المعرفية للفلسفة الغربية مثل: "الداخل / الخارج .. العقل / الجسد .. الحرفي / المجازي .. الكلام / الكتابة .. الحضور / الغياب .. الطبيعة / الثقافة .. الشكل / المعنى" ومن ثمّ انسحب ذلك على ثنائيات النقد الأدبي مثل: الدال / المدلول .. المؤلف / القارئ .. الكتابة / القراءة .. النص / الخطاب" ... "1".

الكلمات المفتاحية: التفكيك، القصة، السلطة، النسق، الفقر.

1ـ مقدمة:

منذ الكلمات الأولى في مجموعة "حواديت محلية الصنع" أو المفتتح المعنوّن بـ "تعريف لابد منه" تحدد مشاهد / مقولات "الفقر" سياقًا خطابيًا يمهد لاكتشافه كهوية دامغة لقصصها، ليس فقط باعتبار المفتتح إشهارًا للمحتوى الدلالي لقصص المجموعة، ولكن لأن تفاصيله الحسية أيضًا تمتلك حضورًا طيفيًا ثابتًا داخل هذه القصص. قراءة "حواديت محلية الصنع" تعني إدراكًا بأن فضاءات قصصها تنطوي طوال الوقت على "كوب شاي ماسخ"، و"نداءات باعة جائلين"، و"تلميذ ينادى على اسمه في طابور الصباح لأنه لم يسدد المصروفات"، و"فرحة طفل بعلبة "الهريسة"، و"أطفال يلعبون "الغميضة" في المقابر"، و"محاولات لتفادي بصقات وصفعات مجذوب"، و"شخص يجمع أجرة "ميكروباص"، و"ولد يهرب من المدرسة قفزًا من فوق أسوارها العالية ذات الأسلاك الشائكة". في خفاء القصص يوجد هذا "النقصان المكتمل" بأشيائه الملموسة رغم احتجابها، التي تكوّن كليّة الحيوات المعلنة للمجموعة.

(لم أنشأ بين الكتب، ولم يحو بيتَنا مكتبة كما يتباهى الكتّاب، ذلك أن أبي الفقير لم تكن ضمن أولوياته الكتب والمكتبات. إنجازه أن يمر اليوم بالكفاف في العيش، حلونا كان كوب الشاي "الماسخ") ... "2".

"جماليات الفقر" تقدم نفسها في هذا المفتتح بديلًا لـ "المتن الأدبي العالمي" المتعذّر، كما يشير الكاتب، لكن هذه الجماليات كان عليها أن تتحوّل بدورها إلى متن شخصي، يوثّق سردية "الكفاف" التي لم تُقرأ في كتب وإنما ظلت "معاشًا". كان على هذه الجماليات بينما توثق "الحيوات الكادحة" أن تتأمل ذاتها، ليس فقط عبر مرايا "البؤس" في "الأدب العالمي"، كما نجد في قصص مثل "المعطف" لجوجول، أو "وفاة موظف" و"المغفلة" لتشيكوف، أو "الخبز" لبورشرت، ولكن أيضًا عبر التشريح الضمني للغة التي تستعملها هذه الحيوات في وصف نفسها. لكي يستجوب هذا التوثيق ولو على نحو مستتر تلك العلامات التقليدية التي يستخدمها "نسق الفقر" في تثبيت يقينه. ذلك لأن إعادة كتابة الذخيرة السردية لـ "حنايا الحواري" على سبيل المثال تضمر في جوهرها رغبة مبهمة في تحريف "النموذج البلاغي"، أي تعديله بما يجعله قابلًا للبوح بـ "فقره"؛ احتياجه الدائم لسد ثغراته، لإخفاء تناقضاته، أي عجزه عن ضمان الاتساق مع نفسه. يجعله قابلًا  للنطق بما لم يفصح عنه من قبل. تجريده من عموميته، أو سماته الشائعة والمستقرة، ألا يكون مجرد استنساخًا لمعرفة متعسفة، تكوّنت وفقًا لمشيئة "سابقة"، تتسم بالمراوغة والانفصال عن "ملامح النموذج الزائلة". هو بحث "الكفاف" حين يصبح نصًا مكتوبًا عن استقلاله المضاد عن "المصدر المتعالي" للسلطة أو الخطاب الشمولي "المنعزل" الذي ينتج مواصفات القيم عبر التاريخ، وبالتالي يؤسس ويضمن الهيمنة بواسطة الانتساب اللغوي المتجذر إلى مرجع أو "لاهوت أنطولوجي" يستحوذ كليًا على الحقيقة. يعمل النقد على كشف هذا الانتهاك المتواري الذي تمارسه القصة القصيرة تجاه خطابها الظاهري. على حل الالتزام المدعي بين الكلمات والإطار الطاغي الذي يضمن معانيها ويسيطر على إحالاتها. هكذا تكون "عني" التي يبدأ بها مفتتح المجموعة "تعريف لابد منه"، إيماءة سرية إلى "اللاتعريف".

(لا يشرح التفكيك النصوص بالمعنى التقليدي الذي يحاول الإمساك بوحدة المحتوى أو التيمة، وإنما يبحث في كيفية اشتغال التعارضات الميتافيزيقية وتفنيدها، كما يبحث في الطرق التي تُنتج بها المجازات النصية والعلاقات في النص منطقًا مزدوجًا ومتناقضًا)... "3".

2 ـ الصوت كتفاوض مع الزمن:

صوت الطفل في قصة "عملات أبي" يكافح لخلق مستويين من الزمن: الوقت الشخصي، الكرونولوجي أو المتتابع كما يمر بحسب عقارب الساعة مكتسبًا سرعة قصوى، والذي يفترض أن يصل به إلى لحظة الحصول على الدراجة، والزمن الوجودي الذي يتجاوز الوقت، أي الذي لا يرتبط خلاله العالم كليًا بعقارب الساعة. هذان المستويان من الزمن ينسجمان ويتصارعان معًا؛ فالسرعة القصوى بالنسبة للطفل هي إلغاء للوقت الشخصي، وهو ما يرادف الزمن خارج عقارب الساعة، أي في عدمه، وكأن "الدراجة" وسيلة مستقبلية ممكنة لتحقيق ذلك التخطي. لكن سر هذا الانتفاء الغامض والمستحيل للزمن هو ما يمنع الوقت من الإلغاء. هو الذي يبقي العالم عالقًا في الوقت. يعرَّف الخيال الطفولي هنا بكونه وسيطًا تفاوضيًا بين الوقت وما وراء الزمن. تودد "الوقت المستعمل" إلى السلطة الغيبية التي يختفي عندها الزمن. التي تُبقي العالم خاضعًا للزمن. الوقت المستعمل تكوّنه كل الأشياء المستعملة في حياة الطفل وأسرته، وكأن التلصص على عقارب الساعة كمجابهة لهذا الوقت هو ما يشيّد الزمن الداخلي "الشبحي" للطفل، أو الوقت المنفلت من "الاستعمال"، غير المرهون بعقارب الساعة، ومن ثمّ فإن هذا الزمن الداخلي يضع الطفل على حافة الاختفاء الزمني. أي على عتبة المواجهة مع السلطة المجهولة التي تمتلك الزمن. صوت الطفل ينطوي على استجواب لوجود يمكن تلخيصه في "سوق الجمعة" أي حيث يشتري الفقراء ما يتاح لهم من قمامة الأغنياء. الدراجة المستعملة استفهام "العدل" الذي يتعدى الأطر الاجتماعية نحو "الأصل الكوني" المحتمل للقهر. نحو الإرادة المحتجبة التي جعلت العالم نقيضًا للمطلق ومن ثمّ يحكمه التفاوت والتمييز. الطفل لا يستحق دراجة فحسب سواء كانت جديدة أو مستعملة، ولكنه يستحق أن يكون محصنًا من الحاجة بشكل شامل. أن يكون محميًا من ألم النقص. ألا تستعمله مفردات الظلم الطبقي المروّضة للتعتيم على جوهر معاناته، حيث "المساواة" ـ كرجاء طوباوي ملغز ـ ليست بين كائن وآخر وحسب، وإنما في محو التضاد بين الكائن وكينونته الإلهية بالمقام الأول. في تفتيت "الحكمة" المتسلطة التي تضلل وعيه بالمأساة، وتقمع بالضرورة تمرده الانتقامي على زيفها.

"أفرح برؤية السيارات الكهربائية التي كنت أراها فقط في الأفلام مع أبناء تجار المخدرات وأثرياء القوم، لا أعبأ بأجزائها الناقصة وخروقات جسدها من تعدّي أبناء الذوات التي أنقذتها من أياديهم العابثة دون اكتراث؛ لتكون جديدًا لآخر يعاملها برقة كحلم غال تحقق" ... "4".

تتطلب قراءة قصة "عملات أبي" مقاومة استبداد المعنى الذي يصوغ عبارات مثل "دائمًا أمانينا أغلى مما في جيوبنا، ودائمًا الثمن حائلنا الأكبر". المقاومة التي تفكك "الأمنية" و"الثمن". الأمنية التي يكشف تحققها ـ على الأخص ـ عطبًا كامنًا في أغوارها، تصدعًا جذريًا يعيد تشكيل هويتها، ذلك ما يجعل الثمن "مطاردة" لما لا يتم امتلاكه أبدًا. وكأن رحلة الولد وأبيه إلى السوق لشراء دراجة مستعملة هي تمثيل مختزل للانتقال بين فجوة وأخرى تتنكر في أحلام "محلية الصنع" عبر هامش شائخ من الفقد الأزلي، سيمتد بعفوية الحياة والموت إلى ما بعد حصول الولد على الدراجة؛ حيث تظل كل الحيوات "مستعملة". هذه الفجوات ليست "أمنيات" فحسب، وإنما هي أيضًا الإيهام الذي يفصل الراوي عن الماضي الذي يتذكره، وما يفصل الطفل عن ذاته التي تجرّب هذا الماضي حين كان حاضرًا. الفجوات التي تتحوّل لحظة الكتابة إلى تلويحات ثأرية تجاه متن غائب.  

3 ـ صيرورة التغييب والانبعاث:

شخصية الراوي في قصة "السبنسة" تحاول فض الاشتباك بين صيرورة روحية وأخرى جسدية؛ فالطالب فوق عتبة السبنسة يضع جسده في مقامرة حركية للاتساق مع شوق معاند لروحه. يريد الفوز برهانه كمغامر غير خبير وسط جماعة من المتمرسين على خطر "السبنسة"، لكن توقه الروحي في السعي لمسايرة هذه الرغبة يقيده الرفض الأساسي لهذا الاضطرار. رفض الأسباب والعوامل ـ غير النزيهة ـ التي سمحت لهذا المشهد بالوجود. هذا ما يجعل الصيرورة الروحية مجاهدة لتعطيل صيرورة الجسد بينما تقوم ظاهريًا بتحفيزها. الروح تحاول إخفاء الجسد كخطوة أولى ـ لا تحدث ـ لإعادة بعثه خارج عتبة السبنسة. خارج "موضوع" السبنسة". كأن هذا الانبعاث المناقض للجسد سيمحو رمزية "السبنسة" ذاتها، أي ما تأسسس عليه "تاريخيًا" هذا التشبث بالباب الحديدي للعربة الأخيرة من القطار .. لكن ما هو ذلك الجسد الذي تحاول الروح تغييبه؟ وأي انبعاث تسعى إليه؟ ...

إن الجسد غير مكوّن فحسب من ذلك الوعي باللامساواة، وما يفرّق حياة "القادرين" عن حياة "العاجزين". وما يفرّق "ركاب المكيّف" عن "المتعلقين في الذيل"، وإنما يشكّله أيضًا ذلك التضليل الغريزي الشامل الناتج عن تراكم الكبت الذي يمارسه هذا الوعي باعتبار أن تلك "اللامساواة" تبدأ وتنتهي داخل الحدود البشرية، وليست شانًا غيبيًا، أو على الأقل يحتفظ ذلك الغيب بسرّها التبريري. يشكّل هذا الجسد معارضة دفينة لا شعورية، ليس نحو تلك الفروق المعيشية فحسب، وإنما أيضًا تجاه ذلك السر الذي نجمت عنه هذه الفروق ويتجاوز الحدود البشرية، حيث التبرير ـ المحتجب في الملكوت الأبوي ـ ما هو إلا توطيد للشر المطلق.

"القطار في طريقه غير عابئ، أعيننا ترمق من خلف زجاج العربة الأخيرة خيالات من ركاب المكيّف الذي نستقله، ولكن شتّان أن تتساوى الرؤوس وإن توحّد القطار!"... "5".

هنا لا يصبح القطار مركزًا بين "الداخل" و"الخارج" فقط، وإنما كذلك بين الأنا والتفسير المادي "المشوِّش" لمعاناتها. بين الأنا والتفسير "الكوني" المرجأ لمتاهاتها. يتحوّل القطار إلى قناع مبتذل، يوهم بالصلابة والحياد، ليواري وجهًا مفتتًا لمرجع "قيمي" كاذب. هنا يأتي دور التأمل النقدي في نزع هذا القناع عن الإطار المعرفي المحطم أو سراب اليقين الذي يتبدى كموطن حاسم للإجابات القاطعة والتفسيرات البديهية والمبررات المؤجلة. مع هذا النزع النقدي للقناع اللغوي عن "المعنى" يُعاد انبعاث جسد الطالب كطيف خارج المدلول "الجمعي". تتحوّل أجساد ركاب القطار والمتشبثين بمؤخرته ـ بالتالي ـ إلى مرايا طيفية، مجردة من "الخطاب الطبقي" ـ دون أن تتوقف عن الإشارة إليه ـ حيث لا "يبصر" كل جسد "تشيؤه" السابق في مرآة الآخر، وإنما "يستبصر" ذلك "المطلق" الذي حُرم منه كـ "مخلوق"، ليصبح منذ لحظته الأولى دمية عابرة من الدوال المكرَّسة، تتصارع مع الدُمى الأخرى، فقط من أجل التأكيد على قداسة المفهوم. التحرر هنا ليس إلا محاولة تخيّل ذكرى مطموسة، لا دليل على حدوثها، وإنما يقين بافتقادها. الهوية التي أراد رولان بارت التجرد منها: "أنا، من أكون؟ استعصاء على التحديد، روغان لانهائي، وانتهاك لكل التخوم والحدود. لست موضوعًا للاستهلاك بل ساحة للإنتاج، أنا إشارة حرة، ودال عائم بلا مدلول" ... "6".

4 ـ مجاز الكمال وخيوطه المقطوعة:

في قصة "الغريب" يراقب الراوي عامل المقهى الصعيدي في سعيه للوصول إلى الحد الغائم لغربته. إلى حيث يمكن ـ بمعجزة ما ـ أن تتحوّل هذه الغربة إلى "خرافة". أن تحدث مفاجأة خارقة "منقذة" عبر التحديق المتمنع إلى ما وراء تخوم هذه الغربة التي تبدو لانهائية. كأن الراوي بهذه المراقبة يجاهد للوصول إلى حدود غربته الخاصة، التي جعلتها اليد المحترقة لعامل المقهى أكثر رسوخًا وبطشًا. في هذه القصة تقدم محاولات عامل المقهى العسيرة للتكيّف وإثبات الجدارة قبل صراخه الأخير؛ تقدم معادلًا حركيًا لأداءات التكنيك القصصي نفسه: التفحص، التورط، المسايرة، الجرح، إخفاء الألم، الصدمة المشهدية، العراء الختامي الذي تتسع وحشيته لكل الاحتمالات. كأن عامل المقهى يكتب قصته القصيرة جسديًا بينما الراوي يحوّل هذه الأداءات الجسدية إلى تقنية سردية لا توثق هذه القصة فحسب وإنما تشمل المجموعة كافة وفقًا لخصوصية كل قصة.

"ظل الحال كذلك حتى استدعاه من آخر الصالة مناد بصوت أجش ليرفع له الولعة التي تساقطت على الأرض، فإذا به يهرول، خاصة أن الواقعة بجوار مكتب عرش المعلم، ليلتقط تلك الجمرات المتوهجة بيده بحركات سريعة، نظر بعدها رافعًا رأسه بابتسامة نصر للمعلم" ... "7".

القصة القصيرة إذن هي وسيلة الكفاح للوصول إلى الخط المعتم الذي يمكن أن تنتهى عنده الغربة، لكن هذه الحافة تظل مجازًا، أسطورة ملتبسة للواقع حين يكون مسكونًا بتدابير أخرى. إن الانتقال الذي يتوسله البائس من العوز ومهاناته إلى الكفاية ووقايتها يظل انتقالًا لغويًا؛ فالاستغناء مشروط بغياب الحياة نفسها، ومن ثمّ فإن الوقاية الخالصة مرهونة بالوجود خارج الزمن. القصة القصيرة تناوش هذه المفارقة الكونية بينما تستغرق كليًا في رصد "الغريب" أو عامل المقهى البائس الذي تحوّل من "ريّس صالة" إلى "شياشجي". قراءة ما بين السطور أو ما تصمت عنه الكلمات تكشف هذه المفارقة؛ فتدابير "النقصان" وإن اختلفت من مكان لآخر، تظل هي ما يباعد بين السماء والأرض. بين مجاز الكمال وخيوطه المقطوعة.  

5 ـ المكان بوصفه قرارًا استباقيًا للفناء:

في قصة "سكن" نحن أمام فتات مكانية. فتاتة يسكنها الرجل المسن أو "العشة"، فتاتة يرجوها أو "حجرة لها سقف يحميه من المطر"، الفتات كفكرة عبثية أو "العالم كما يراه الراوي من خلال حكاية المسن ونهايتها". عشة المسن ليست "فضلات" مكان حقيقي؛ وإنما هي "ما تكسر وتساقط" من "اللامكان" أي حيث يغيب "المكان" كفضاء شامل، مطلق، لا يقع شيء خارجه. ذلك ما ينطبق أيضًا على "الحجرة ذات السقف" التي لم يحصل عليها المسن لتحميه من المطر، ومن هنا تتحوّل المقابر التي عرض أصحابها إيواء المسن بعد موته إلى تعريف لهذا "اللامكان" الذي "تكسرت وتساقطت منه الفتات كافة". تتسع المقابر إلى مدى لانهائي، لتصبح تمثيلًا لفكرة العالم في خفاء البنية التأملية للراوي التي تعيّن المقابر سكنًا، كان المسن يحتاج منها إلى واحدة فقط كي لا يموت. يصبح العالم تمثيلًا للفناء بتنويعات "مساكنه" أو بالإفرازات المخاتلة لـ "اللامكان" الذي "تكسرت وتساقطت منه الحكايات" لأنه في ذاته ليس "حكاية" وإنما يحضر فقط بحدس "الحكايات المفتتة" حين تستعرض أشلاءها أو تواريها عبر أنماط متعددة من التماسك الشكلي. يُستدعى "اللامكان" حين تحدث تلك الخلخلة القصصية لمسمّى "المكان" بوصفه قرارًا استباقيًا للفناء، تتوزع ماهيته في موجودات "مبتورة" عن الشخصية الرئيسية التي لا يؤديها أي "ساكن".

6 ـ المعنى الفاصل بين المخلوق اللغوي وسلطة اللغة:

تتداخل "الحبكة" القصصية المفترضة مع انتهاكها السري لنفسها؛ حيث يبطن نظام القصة تدميرًا ذاتيًا لمعماره اللغوي يمكن اكتشافه بواسطة الجدل مع فعل "النبش" في قصة "أن تكون كلبًا"؛ فالمقابلة التي يتم طمسها أو تحاشيها امتثالًا للحكم البلاغي بين ما هو "حي" وما هو "منزّه" تُستبدل بالمقابلة المداهِنة والاسترضائية بين من ينبش القمامة ليأكل، ومن يأكل دون نبش. تعتمد سلطة اللغة على تحديد معنى قاصر، مقيد، محكوم، ومروّض للنبش، معنى لا يتجاوز الحدود التي تحمي المجاز حيث يختبي ما ليس لغويًا، وما لا يجب المساس به، باعتباره مالكًا للمجاز، ومن ثمّ لديه القدرة على الوفاء بالعهود التي لم يفصح عنها المجاز نفسه، أي في كمالها الأنقى. ذلك ما ينطبق على المقارنة بين "نابش القمامة"، والكلب الذي سيصير إليه ليتمكن من الحصول على "الرفق والطعام" مثل كلاب الذين يأكلون دون نبش.  التشبيه الشهير يعيد استهلاك نفسه في هذه القصة لكي تنبئ بتفكك ماهيتها دون تبرؤ مما تستند عليه كفكرة عامة أي "الإذلال"؛ ولكن التقويض هنا يتعلق بما يتخطى المنظور القريب والمباشر لهذا "الإذلال". المعنى المؤطر الذي يقف حاجزًا بين المخلوق اللغوي، وسلطة اللغة ذاتها كمصدر لتعيين المفاهيم، وتحديدها، وإخراس أشباحها الهادمة. تمثل إعادة تدوير هذا التشبيه التقليدي خضوعًا لـ "المقولة" أو كليشيه الظلم الاجتماعي، اتقاءً للمجازفة ـ المضمرة بالفعل ـ بأن تعرض القصة اجتياحًا لغرض الوجود نفسه طالما أنه ـ على الأقل ـ يسمح بذلك النوع من الشقاء في الوقت الذي "يتعايش" خلاله الموجود مع هذا الشقاء بالتقرب إلى الأبوة الكونية عبر قرابين البلاغة المتعبّدة. كأن المثال المطلق ـ بتنويعاته الخرافية ـ ليس إلا رحلة اللغة في تكوينها "العمائي" لتاريخ الوجود.

خاتمة

بهذه المقاربة لمجموعة "حواديت محلية الصنع"، وبالتمعن في ما كشفت عنه حول علاقة الصوت بالزمن، والاشتباك بين صيرورة الروح وصيرورة الجسد، والحركة الاغترابية كمعادل لأداءات التكنيك القصصي، والعالم باعتباره تمثيلًا للفناء، وانتهاك الحبكة لنفسها؛ يمكن استبصار دافعًا لتساؤل ـ ربما لا ينكر انحيازه ـ حول القصة التي كان يمكن أن يكتبها علاء أحمد وتتضمن الجزئيات المحددة الواردة في مفتتح المجموعة "تعريف لابد منه" ممتزجة بتفاصيل أي من قصص المجموعة التي تعرض حيوات الفقراء، استثمارًا للميتا سرد في تشكيل هذا التقاطع والتشذر. لنتخيل هذا الدمج بين التعريف الافتتاحي وقصص مثل  "حواديت محلية الصنع" أو "في قلبي خروف" أو "نظرة" مثلًا. إن في ذلك التوظيف وشاية أكثر حدة بثورية الإلهام التي يكتمها قانون "الحواديت" المتوارث، خاصة تلك التي تتسم بالنهايات "السعيدة".

الهوامش:

1 ـ التفكيكية وقراءة الأدب العربي القديم "عبد الفتاح كيليطو" نموذجًا / سامي محمد عبابنة ـ دراسات، العلوم الإنسانية والاجتماعية، المجلد 42، ملحق 1، 2015

2 ـ حواديت محلية الصنع، علاء أحمد ـ السراج للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2024. ص7.

3 ـ مدخل إلى التفكيك / جوناثان كلر (عن التفكيك) ـ تحرير وترجمة: حسام نايل / الهيئة العامة لقصور الثقافة (سلسلة آفاق عالمية "69") 2008 .

4 ـ حواديت محلية الصنع، علاء أحمد ـ السراج للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2024. ص13.

5 ـ السابق، ص34.

6 ـ أقنعة بارت، جوناثان كلر. ترجمة السيد إمام ـ سلسلة آفاق عالمية / الهيئة العامة لقصور الثقافة 2014.

7 ـ حواديت محلية الصنع، علاء أحمد ـ السراج للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2024. ص45.

أخبار الأدب

2 ديسمبر 2024

الجمعة، 29 نوفمبر 2024

ليلة دخلة محمود العراقي

كان لمحمود العراقي ضحكة ثابتة مميزة، تفصل معظم الوقت بين العبارات التي ينطق بها، كما تُنهي حواراته ـ التي عادة ما تكون مقتضبة ـ مع أي شخص، خاصة من سكان العمارة الشاهقة داخل الحي المتصف منذ ماض بعيد بـ “الرُقي”، والتي يعمل حارسًا لها رفقة أبويه .. ضحكة خافتة، قصيرة، تتدفق بعفوية من ابتسامة منفرجة الشفتين كجسر صوتي صغير بين جملة وأخرى أو كنقطة ختام خجولة لكل حديث .. من سمع ضحكة محمود العراقي أدرك على الفور ودون أدنى صعوبة أنها “استرضائية”، أي تنتمي إلى ذلك النوع من الضحكات الذي يتجاوز إبداء الود والمجاملة إلى تمرير الرغبة في الحصول على استحسان الآخر .. لكن ليس كل من بلغت أذنيه هذه الضحكة أو تعوّد عليها رآها كذلك في حقيقتها .. هناك مِن سكان العمارة من اعتبر “الاسترضاء” مجرد قشرة، قناع مخادع يكمن وراءه شعور عميق بالحقد والسخرية، ولم يكن دليلهم لإثبات هذا الحُكم سوى نظرة عينيه التي تقترن دائمًا بضحكته المألوفة .. نظرة محدقة، جامدة، باردة بالأحرى، فارغة كليًا من الانطباعات .. لهذا، كانت ضحكة حارس العقار الشاب بالنسبة لهؤلاء بمثابة تجرّؤ خفي، لا يمكن لحماقاتهم البرجوازية منعها أو ترويضها .. أيضًا هناك من كانوا يرونها دليل بلاهة متأصلة لا أكثر، ولم تكن حجتهم في ذلك سوى النظرة ذاتها .. لكن ضحكة “محمود العراقي” في الواقع كانت استرضائية حقًا بكيفية خالصة، لا تُضمر كراهية أو تهكمًا، كما لا تبتغي بالفعل أكثر من أن يضمن إشباع حاجة الآخرين إليه، فضلًا عن أنه كان نقيًا من “البلاهة” .. أما نظرة عينيه التي كان يُشار إليها أحيانًا كقرينة للإدانة بشكل أو بآخر فلم تكن سوى حريته التي لا يمكنه تقييدها .. كانت أشبه بشرود مستقل، تلقائي، متأرجح، لا يخدش موضوع ضحكته أو معناه، ولكنه يُبقي شيئًا من روحه خارج اللحظة .. بعيدًا عن العمارة .. بين الأطياف المراوغة للمدينة وللعالم نفسه .. كأن هذا الشرود هو الذي أنتج ملامح محمود العراقي ورسم مسارات تشكّلها .. كانت هذه النظرة نوعًا من العماء.

* * *

ظل محمود العراقي يؤجّل زواجه بقدر ما استطاع، رغم إلحاح أبويه وترشيحاتهما المستمرة لفتيات كثيرات من قريتهم إليه .. كان يؤمن بأن أبويه وشقيقه الأصغر الذي لم ينته من دراسته بعد هم الأجدر بالحصول على كامل رعايته وعائد عمله .. كان يضع الاهتمام بحياته الشخصية في مرتبة متأخرة، أما الأولوية فكانت لأبويه وشقيقه ولسكان العمارة وللناس عمومًا .. لم يكن عاملًا متفانيًا ومخلصًا في مهنته فحسب، وإنما كان جسده النحيل أشبه بيدٍ نشطة، ممدودة طوال الوقت لتخفيف العبء عن الجميع .. كان يكتفي باستراق النظر إلى أجساد ووجوه البنات والنساء، وتخيّل لحظات استمتاعه المحموم بالتنويعات العصية لجمالهن، والتي دائمًا ما تنتهي بصورة انعزالية في جوف المرحاض .. كان يطيب له أحيانًا أن يمنح امرأة تخيلاته أحد المناصب الرفيعة التي تتداول بوفرة أمامه في التليفزيون والإذاعة والإنترنت مثل “رئيسة المركز القومي للمرأة”، “الأمينة العامة لمجلس الطفولة والأمومة”، “مديرة وحدة المرأة وقضايا المجتمع بمركز الوحدة للدراسات الاستراتيجية” .. هكذا كانت لذته تتضاعف حينما يتحوّل الاستمناء إلى نوع من التكريم السياسي لعضوه.

* * *

حصل محمود العراقي على شهادة دبلوم صنايع، قسم “زخرفة”، وبعد الانتهاء من فترة تجنيده؛ تفرغ تمامًا للعمل مع أبويه في العمارة التي يسكنها بشر يمتلكون من الرفاهية ما يجعلهم أقرب إلى “كائنات تليفزيونية”، أي يليق بهم الظهور على الشاشة أمام المتفرجين مثلما اعتاد محمود العراقي أن يفكر فيهم، بإعجاب وتقدير، لا بحسد واستهزاء .. كان مؤمنًا بالطبع، ولا تفوته ركعة، وبالتالي عاش ممتثلًا برضى وتآلف مع الحكمة المحسومة في الكلمات القرآنية:

“نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ”.   

* * *

في حجرة محمود العراقي بالشقة الصغيرة في الدور الأرضي التي يسكنها مع أبويه وشقيقه داخل العمارة الشاهقة في الحي الراقي كانت توجد دواوين لـ فؤاد حداد وصلاح جاهين وأحمد فؤاد نجم وعبد الرحمن الأبنودي وبيرم التونسي وغيرهم .. “أولياء الحياة الصالحين” كما كان يُطلِق عليهم دائمًا، والذين تمنّى لو أنه عمل حارسًا للعمارة التي سكنها كل “ولي” منهم .. كان يقرأ شعر العامية ويكتبه منذ المرحلة الإعدادية، كما تعوّد بعدما أصبح حارس عقار أن يُلقي قصائده التي يكتبها بالقلم الرصاص في الكراسات والكشاكيل المدرسية على جيرانه من البوابين والعاملين في محلات المنطقة، والباعة الجائلين من حولها، بالإضافة إلى أصدقائه في المقهى، وكذلك ينشرها على صفحة فيسبوك الخاصة به ولا تحصد سوى إعجابات وتعليقات نادرة .. كانت قصائد محمود العراقي ذات طابع غنائي، وتتسم كشخصيته بالطيبة والشهامة .. موضوعاتها تتحدث دائمًا عن سحر الطبيعة والإخوة بين البشر والأمل في غدٍ أفضل، كما كان يخاطب في شعره أحيانًا حبيبة متخيلة، يتغزل في حُسنها ورقتها، ويدعوها لمشاركته أحلامه الفردوسية، ويعدها بالبقاء معًا حتى النهاية .. كان أصدقاؤه يستمعون لقصائده ويتغامزون بسخرية، وحينما ينتهي يصفقون له ويغمرونه بالمديح بينما يكتمون ضحكاتهم.

* * *

اعتاد محمود العراقي بنفسٍ صافية على التغاضي عن ما لا يفهمه أو يستسيغه من أحوال سكان العمارة الذين يقضي طلباتهم، وينظّف عتباتهم وممراتهم، ويعتني بشققهم وسياراتهم وأبنائهم .. في المقابل لم يكن بوسعه التغاضي عن شعور وطيد لديه بأنه ليس مثاليًا بما فيه الكفاية .. كان بالرغم من كل ما يُقال عن “أدبه” و”جدعنته” يفكر في أن صورته لدى الآخرين الذين يعيش بينهم تعوزها المعالجة .. تحتاج لمزيد من الجهد لكي تُلبي على نحو تام، ودون أدنى نقص، ما يتمنى الجميع أن تكون عليه .. كان في جوع دائم لعطاء غامض، غير محدود، لا يترك أثرًا لألم ولو بدا هزيلًا .. قصائده كانت توثيقًا مستترًا لهذا الجوع .. تأصل في ذاته مبكرًا ذلك المزيج المهادن من الطيبة والمراعاة؛ فكان  يفضّل في صغره وبلا توجيه من أحد أن يبقى بعيدًا عن أطفال العمارة ودون عداء لوجوههم المشرقة بالثراء، وملابسهم فائقة الأناقة، وألعابهم التي تخلب العقول، وفي الوقت نفسه تعوّد غريزيًا أن يبقى منتبهًا لكل من يصعد السلالم وينزلها استعدادًا لتنفيذ أمر محتمل أو تقديم مساعدة فورية لن يطلبها منه أحد بحكم سنه .. حتى في صباه ومراهقته وبينما كان فتيان القرية يغازلون بناتها ويلتقون بهن في الخفاء ويختلسون معهن القبلات واللمسات والمداعبات؛ كان يعجز هو عن تبادل حديث مع إحداهن دون أن يتورد خداه ويتلجلج لسانه فينهيه سريعًا كمن يهرب من ذنب بعدما يتأكد بأن من تقف أمامه ليست في حاجة إليه في أمر آخر من أمور الدنيا ..  لذا؛ مهما فعل، لم يكن يفارقه الشعور بالتقصير في خدمة من حوله، وبدرجة أكبر أولئك الذين تعتلي شرفاتهم مقعده المستقر بجوار البوابة.

* * *

“فعلت كل ما بوسعي من أجل البقاء، ولكني لم أستطع .. عليّ الآن أن أقول الوداع”.

بعينين ذاهلتين وفم مطبق وغصة ثقيلة في الحلق؛ ظل محمود العراقي يحدّق إلى دموع ليونيل ميسي في تليفزيون المقهى وهو يعلن عدم تجديد عقده مع برشلونة .. كانت لحظات كابوسية لا تُصدَق بالنسبة لحارس العقار الشاب .. خلال المسافة التي قطعها وحده بملامح واجمة عائدًا إلى العمارة كان يتمنى لو أنه القدر .. القوة الغيبية التي تعالج المشاكل المالية لبرشلونة، وتمنح ميسي عقدًا جديدًا، وتبقيه في النادي حتى اعتزاله ..  تمنى لو أن ذلك يمكنه أن يحدث لو كتب قصيدة عن دموع ميسي ..  لو على الأقل ظل يتطلع طويلًا إلى صورة ميسي الملتصقة بحائط غرفته أسفل العمارة .. لكنه كان يعرف أن ذلك لن يحدث، وهو ما حفر في أعماقه شعورًا غائرًا بالعجز .. كعاشق لبرشلونة ومتيّم بميسي؛ كان يخاتله إحساس بأن ثمة مسؤولية شخصية تتعلق به ـ بطريقة ما ـ في هذه الكارثة.

* * *

بناءً على اقتراح “هازئ بشكل خفي” من أحد أصدقائه؛ توجّه محمود العراقي ذات ظهيرة إلى مقر مجلة ثقافية تصدر منذ عقود طويلة عن حزب وطني تقدمي وحدوي وهو يحمل نسخًا من بعض قصائده العامية أملًا في نشرها .. راقبت خطواته أثناء صعودها سلالم المبنى القديم لافتات معلقة على الجدران بخطوط باهتة ومهترئة، لم يفهم معنى كلماتها: اليسار .. الاشتراكية .. الإمبريالية .. وحين وصل إلى نهاية السلالم تعثر في الدرجة الأخيرة فاختل توازنه قليلًا أمام عيني العجوز الجالس وراء المكتب المجاور لباب المجلة المفتوح .. عجوز بدين أصلع بلحية بيضاء قصيرة، يقضم من أحد ساندويتشات الفول والطعمية التي أمامه على المكتب .. فكّر محمود بأن هذا العجوز يشبه الممثل الذي لا يتذكر اسمه وأدى دور العفريت أمام اسماعيل ياسين في فيلم “الفانوس السحري” .. قال العجوز لمحمود بابتسامة ساخرة وهو يمضغ ببطء: “حوش إللي وقع منك” .. ابتسم محمود وتقدم إلى الداخل ملقيًا تحية الإسلام ثم جلس على المقعد أمام المكتب وهو يتلفّت حوله بعدما أشار إليه العجوز بعلامة الترحيب.

وجد محمود نفسه في صالة متوسطة الاتساع ذات سقف عالٍ وأرضية خشبية، تُفضي إلى حجرات عدة، أبوابها مواربة، بينما مجموعة من مكاتب صغيرة متراصة على الجانبين يجلس ورائها بعض الشباب من المحررين والمحررات، منهم من يكتب في أوراق، ومنهم من يكتب على اللابتوب، محرر يتصفح كتابًا، ومحررة تتحدث في الموبايل .. أحيانًا تتحرك الأقدام بين المكاتب والحجرات والشرفة الكبيرة المفتوحة، مثلما تتحرك أحيانًا أيضًا الكلمات والابتسامات والضحكات بين الجالسين .. انتبه محمود إلى أن حوائط الصالة تحتاج إلى ترميم، وأن الستارة الرمادية الخفيفة التي لابد أنها تغطي ممرًا إلى المطبخ والحمام تحتاج إلى تنظيف، وأن الشابة السمراء النحيفة التي تمسك بالموبايل تحتاج إلى أن تمسح مخاط أنفها وهي تتحدث لصديق لها عن الصحفي الفرنسي الذي أجرى حوارًا معها عن الكتابة الجديدة في مصر.

أخرج محمود بتردد أوراق قصائده المطوية من جيبه ليمد يده المرتعشة بها إلى العجوز قائلًا:

ـ باشا، دي حاجات بسيطة كتبتها كده …

ثم ضحك ضحكته الخافتة القصيرة المميزة، المقترنة بنظرته المحدّقة  …

وضع العجوز الساندويتش، وبزيت الفول والطعمية في يديه تناول الأوراق من محمود وفتحها ثم تطلع إليها بشكل خاطف قبل أن يطويها سريعًا ويتركها على المكتب ليمسك بالساندويتش ثانية .. ابتسم متهكمًا وهو يتناول قضمة جديدة ويسأل محمود:

ـ عايز تنشرها؟

أسرع محمود بالرد مرتبكًا:

ـ لو ما يضايقش سعادتك …

ثم أطلق ضحكة استرضائية جديدة …

قال العجوز والابتسامة الهازئة تتسع في وجهه مع مواصلة المضغ:

ـ طيب سيبهم هنا وهنشوفهم .. ما تتفضل معانا؟

نهض محمود رافعًا يده بتحية تكاد أن تكون عسكرية قائلًا في خجل:

ـ تسلم يا باشا .. ألف هَنَا …

قال العجوز وقد امتزج بابتسامته شيء من الحدة:

ـ النشر ممكن ياخد وقت .. مش عايزك تكون لحوح وغبي …

اشتعل وجه محمود بالاحمرار وتلاحقت دقات قلبه وثقلت أنفاسه متسائلًا في داخله: هل يسبه العجوز حقًا أم يمازحه؟ .. فجأة وجد العجوز يضحك بقوة وبقايا الطعام تتناثر داخل فمه المفتوح وهو يقول: أنا بهزر معاك .. انت زي ابني.

ضحك محمود كالمعتاد قائلًا:

ـ طبعًا يا باشا .. تؤمرني بأي حاجة؟

لم يكن العجوز البدين يتصوّر أن محمود يقصد سؤاله حرفيًا وليس مجرد استئذان روتيني مهذب بالانصراف .. كان يستفسر منه إذا كان يحتاج بالفعل أن يقضي له ـ أو لأي أحد من الجالسين ـ طلبًا أو مشوارًا؛ كأن يعد شاي مثلًا أو يذهب لشراء سجائر.

هز العجوز رأسه بإشارة وداعية مبعدًا نظرته إلى ما تبقى من الساندويتشات أمامه على المكتب.

خرج محمود من الباب وعيناه تودعان الجالسين وراء المكاتب وكذلك صور الأبيض والأسود الموزعة على الحوائط لوجوه تبدو وقورة ولا يعرف أيًا من أصحابها، لكنه كان يستطيع تمييز الصور الأخرى بأنها لمواجهات قديمة بين الفلسطينيين والجنود الإسرائيليين.

بعد ذلك اليوم ظل محمود العراقي في الليلة التي تسبق موعد صدور كل عدد جديد من المجلة يحلم بوجود قصيدته ضمن صفحاتها، ويتخيل سعادته الغامرة حين يرى اسمه للمرة الأولى مطبوعًا تحت عنوان القصيدة، وكيف ستكون فرحة والديه وشقيقه وجيرانه وأصدقائه في المقهى بهذا الحدث .. ظل محمود يشتري عدد المجلة في أول كل شهر حتى مرت سنة كاملة دون أن يجد قصيدته؛ فتملكه اليأس وقرر الاكتفاء بما اعتاد عليه: قراءة أشعاره لمن يحيطون به ونشرها على فيسبوك وحسب.         

* * *

لم يمر وقت طويل على تخرّج آية السيد من معهد التمريض حتى نجح أبوها في إيجاد وظيفة لها بعيادة أحد الأطباء بمركز القرية .. كانت شابة جميلة، لا أحد يختلف على حسن أخلاقها ونقاء روحها، واكتناز جسمها، وعندما شاهدها محمود العراقي في زيارة اعتيادية لقريته؛ قرر أن يطلب من أبويه خطبتها .. كان محمود يعرف آية وعائلتها بالطبع ولكنه في تلك الزيارة شعر للمرة الأولى حين رآها تعبر أمامه وهو جالس مع بعض أقرانه من شباب القرية عند عتبة بيت أسرته بأنه كان ينتظر هذه البنت تحديدًا أن تُنهي دراستها حتى يتقدّم لطلب يدها .. أنها كانت حبيبته وبرنسيسة قصائده دون أن يدري، وأنه كان ينتظر فقط اللحظة المناسبة لكي يسألها أن تكون شريكة حياته .. أدرك محمود أن آية كانت قدره دونما ينتبه لذلك .. على جانب آخر كان دافعًا جوهريًا لطلبه يد هذه البنت هو تحقيق أمنية غالية لوالديه برؤيته عريسًا، وأن يفرحا بخلَفِه قبل موتهما.

لم يصمد تردد والد آية مدرس اللغة العربية في قبول تزويج ابنته من “حارس عقار” أمام موافقة آية نفسها على الارتباط بمحمود الذي تعرف عن طيبته ورجولته ما يكفي .. كان قلبها مهيّأ ومتحفزًا لاعتبار محمود فارس أحلامها بمجرد أن عرفت برغبته في الزواج منها.

قام محمود العراقي بتأجير شقة صغيرة في منزل قديم لا يبعد عن العقار كثيرًا كما نجح بمعاونة خطيبته في تجهيزها خلال مدة قصيرة بقدر ما سمحت إمكانياتهما مضافًا إليها مساعدات الأقارب وقروض الأحبة .. كانا متلهفين على الزواج في أقرب وقت ممكن، وفي سبيل ذلك تكاتفا بعزيمة وإصرار على تذليل الصعوبات التي تواجههما مثل السعي لإيجاد عمل إضافي لمحمود، وكذلك وظيفة جديدة لآية في إحدى عيادات أو مستشفيات المدينة، وتدبير ما يلزم حفل زفاف أرادا أن يبقى خالدًا في ذاكرة الجميع.

حصل محمود العراقي على وظيفة “ساعي” في الفترة المسائية بشركة لإلحاق العمالة بالخارج تقع في الطابق الثاني لبناية قريبة من العمارة الشاهقة التي يعمل حارسًا لها .. كان صاحب هذه الشركة رجلًا ستينيًا من سكان العمارة، عاش أغلب عمره في السعودية ثم عاد إلى مصر ليؤسس مع مستثمرين خليجيين مجموعة من شركات السياحة والتوظيف في مدن عدة، كانت هذه الشركة واحدة منها .. أمام بوابة العمارة وبينما كان محمود يمسح بهمّة وإتقان الزجاج الأمامي لسيارة صاحب شركة العمالة أبلغه بأنه سوف يستلم عمله الجديد عقب إتمام زواجه “وتبقى دي هدية جوازك يا حودة” .. رد محمود فورًا بضحكته الخجولة: “منتحرمش من سعادتك يا باشا” .. ثم ظل رافعًا يده بالتحية والرجل الستيني يبتعد بالسيارة حتى اختفت من عينيه الجامدتين.  

* * *

كان محمود يتولى المهام الأكبر والأكثر مشقة بالطبع كحارس عقار تاركًا الضروريات الأسهل لأبويه .. لكن حتى هذا الشكل البديهي من توزيع العمل كان يكدّر صفوه دائمًا .. كان يريد أن يتحمّل وحده المهام كلها، الكبيرة والصغيرة، وأن يُعفَى أبواه تمامًا من أي جهد .. لكن ذلك كان مستحيلًا؛ فوالد محمود وأمه ما كانا بمقدورهما التقاعد من المهنة التي لم يعطلهما شيء طوال حياتهما عن القيام بها، كما لم يكن من الوارد أن يسمحا لابنهما الشاب بأن يتكفل وحده بأعباء عمارة كهذه، فضلًا بالتأكيد عن أن ما يحصل عليه ثلاثتهم لن يساويه ما سيتقاضاه محمود لو عمل بمفرده، وهم بلا شك في أمسّ الحاجة لكل قرش خاصة مع وجود ابن آخر مازال في مرحلة التعليم.

الآن تضاعف همّ محمود؛ فعمله في شركة إلحاق العمالة بالخارج سوف يحتل مساء أيامه المقبلة وهو ما سيفرض جهدًا أكبر على والديه في العمارة خصوصًا مع الموافقة المستاءة لسكانها على عدم تخفيض راتبه الشهري حين عرفوا أن ثمة عملًا آخر سيقتطع خمس ساعات من وقته يوميًا بعد الزواج .. كان حتميًا بالنسبة لمحمود أن يكون لأبويه حصة من المقابل الذي سيجنيه من عمله في الشركة، وكان قبول بل وترحيب خطيبته ـ “بنت الأصول” كما تُعرّف دائمًا ـ بذلك أمرًا مفروغًا منه .. كان محمود يخشى على صحة والديه وعلى مستوى شقيقه الدراسي وعلى أحوال سكان العمارة وعلى السلام النفسي لخطيبته وعلى النجاح المستقبلي لشركة العمالة وعلى برشلونة بعد رحيل ميسي وعلى ميسي بعد رحيله عن برشلونة وعلى عائلته لو قرر سكان العمارة ذات يوم الاستغناء عنه أو عنهم واستبدالهم بأسرة حارس عقار آخر.

* * *

توقف محمود العراقي عن الاستمناء استعدادًا لليلة الدخلة بعد أيام قليلة .. كان يفكر ويتخيل قبل النوم ما سيفعله في تلك الليلة بترتيب دقيق، والأداءات اللازمة التي سيقوم بها من أجل إرضاء زوجته ولا ينبغي أن ينساها .. خلال فترة الخطوبة؛ لم تلمس يده سوى يدها، ولم يحتك أي جزء منه بجزء منها عدا اللقاءات العفوية الخاطفة لكوعه بثديها أثناء المشي ويدها في ذراعه .. كان يعتمد في تجهيز نفسه على أفلام السكس التي شاهدها سرًا على هاتفه المحمول مقررًا بالطبع ألا يحاول ممارسة بعض الأفعال الأخرى “بالغة الجرأة” التي تتضمنها هذه الأفلام، ويُحتمل إلى حد بعيد أن تثير غضب فتاة محترمة ومن أسرة متدينة كخطيبته.

عُقد القران بالمسجد الكبير بالقرية، وامتد حفل الزواج إلى ما بعد منتصف الليل؛ رقص خلاله محمود العراقي مع عروسه وأهله وأصدقائه كثيرًا، وحينما تحرّك موكب الزفاف نحو المدينة حيث شقة الزوجية ظل سكان القرية يتحدثون عن أنهم لم يحضروا حفلًا كهذا منذ زمن طويل.

اجتمع محمود العراقي وآية السيد وحدهما للمرة الأولى وراء باب مغلق .. أذابت الروح المرحة للممرضة الريفية خجل وارتباك حارس العقار الشاب الذي حينما أصبح مستلقيًا في سريره، ملتصقًا بالجسد العاري تمامًا لزوجته، وبعكس ما تملّكه في اللحظات الأولى بعد وصوله البيت؛ وجد نفسه آمنًا مطمئنًا، كأنه في حضن أمه، يرضع الحنان من ثدييها، ويستكين مجددًا داخل رحمها الدافئ .. أصبح الامتنان يغمره كأنما يعيش ولادة جديدة بعد مخاض عابر من القلق .. عندما نهضت آية من السرير وقبل أن تتوجه للاستحمام؛ فوجئ بها محمود تمسك بيده وتجذبه بابتسامة شهوانية ماكرة نحو مضاجعة جديدة تحت الماء .. أطلق محمود ضحكته الاسترضائية وهو يتبعها بسعادة لا تُصدّق .. شعر بأن عمرًا مغايرًا له قد بدأ الآن.

* * *

صدر العدد الجديد من المجلة الثقافية التي لم تعتبر إدارتها التحريرية قصائد محمود العراقي جديرة بالنشر في صباح اليوم التالي لحفل زفافه وقد تضمّن هذا العدد ترجمة مقال للأنثربولوجي والناشط الأناركي الأميركي ديفيد جريبر بعنوان “رعاية أكثر من اللازم: هذه لعنة الطبقات العاملة”.

في ظهيرة اليوم التالي لحفل زفاف محمود العراقي جلس العجوز البدين على مكتبه في المجلة يعيد قراءة المقال المترجم في صورته المطبوعة، متوقفًا بإعجاب عند العبارات التي تتحدث عن أن أبناء الطبقة العاملة غير مهووسين بأنفسهم لأنهم أكثر اهتمامًا بأصدقائهم وعائلاتهم ومجتمعاتهم، وأن أولئك الموجودين في أسفل أي ترتيب اجتماعي غير متكافئ يميلون إلى التفكير والاهتمام  بمن هم أعلى منهم، أكثر مما يفكر أو يهتم هؤلاء الذين في القمة بمن هم أدنى منهم.

في مساء اليوم التالي لحفل زفاف محمود العراقي تمدد العجوز البدين في سرير بيته بعد رجوعه من المجلة، وبينما كان يتصفح موقعًا صحفيًا؛ شاهد صورة محمود العراقي وعروسته آية السيد بملابس الفرح في “الكوشة” تتصدر خبرًا عنوانه “مصرع زوجين في ليلة الدخلة”.

لم يتذكر العجوز البدين وجه محمود العراقي .. لم يتذكر ضحكته التي تجمدّت في الصورة أو نظرته التي بقيت محدّقة للأبد .. ربما لأن ذاكرته ضعيفة .. ربما لأنه لم يتمعن في ملامح محمود كثيرًا .. لكنه ظل يتأمل وجه آية بقوة .. عينيها وشفتيها وصدرها البارز من تحت فستانها الأبيض .. استنادًا لتفاصيل الخبر؛ راح يتخيلها عارية كليًا تحت ماء الدُش .. يتخيل نفسه وهو يقبلها، يضع عضوه المنتصب في فمها، بين ثدييها، ثم يضاجعها بأوضاع وقوف مختلفة .. نهض العجوز البدين من سريره حاملًا هاتفه المحمول وتوجه إلى الحمام .. بعدما انتهى من إفراغ شهوته داخل الجسد المتخيّل لزوجة محمود العراقي نظر إلى سخان الغاز وتساءل في نفسه بنبرة شاحبة: كم عامل لمست يداه هذا السخان قبل أن يستقر في حمام بيته؟

وبعدما انتهى من الاستحمام ، وحينما وضع رأسه فوق الوسادة ثم أغمض عينيه لينام؛ قال العجوز البدين في داخله: لابد أن جميعها أيدٍ ماهرة وأمينة.   

موقع "الكتابة" الثقافي

27 نوفمبر 2024

…………..

اللوحة للفنان السوري لؤي كيالي

عن "أحلام اللعنة العائلية"

الدّيستوبيا شيء عليك أن تكتشفه بنفسك، وليس شيئًا يحدث لك. – ممدوح رزق

أحلام اللعنة العائلية هي ديستوبيا مكتشفة ما قبل العدم، وقوة الأحلام تكمن في اكتشاف ما لا يستطيع العقل اكتشافه. الأحلام هي المكان الذي لا يخضع لأي قانون فيزيائي؛ فقانون الأحلام هو ما يخافه عقلك أو يرغبه أو يمقته. خوارزميات الأحلام الغامضة تُنتج حلمًا محرّرًا من صنعنا الخاص، ومشفّرًا بشفراتنا الجينية.
في كل شذرة من شذرات المجموعة القصصية، كنت أشعر بأن رأسي يدور مع البطل؛ كنت جزءًا من أحلامه. دخلت معه وهو يدرس القصة القصيرة، ورافقته أيضًا على حافة النهر، حيث كان يترقب وينتظر من كان سبب وجوده من العدم.
أتحدى أي شخص أن يتمكن من إكمال القصة في جلستين فقط! من شدة التخيلات التي تتجاوز الخيال، ستشعر بالنعاس، وستحلم أحلامًا مزعجة أو غريبة.
مقطع من أحلام اللعنة العائلية:
"فليتخيل كل منكم أنه يحلم بنفسه أثناء عبور شارع واسع ومزدحم قليلًا في ظهيرة شتوية. قادمًا من خيبة أمل لا يتذكرها، وعائدًا إلى بيت لا يثق في وجوده، ومع ذلك يشعر ببهجة غامضة، ربما بسبب المطر والبرد وزرقة السماء الطفولية التي تحول المشهد إلى غيمة هائلة. تخيلوا أن هناك قصة عن شيء غير واضح ينبغي إنقاذه في هذه اللحظة، شيء يشمل عائلة مفقودة خارج ذاكرة على وشك الموت.
أعرف جيدًا لماذا تبتسمون الآن وتتبادلون النظر بأطراف العيون، ولكني سأتجاهل ذلك النوع من البكاء. هذا مشروع الكتابة الجديدة؛ فليكتب كل منكم هذه القصة حتى يقرأها لي في اللقاء القادم، وسأحاول، بإعادة كتابتها من أجله، أن أعثر على ذلك الشيء قبل انقضاء المهلة التي لا أعرف زمانها."
الصورة المختارة في كل القصص والغلاف تعبر عن حالة الشبحية؛ شبح الأحلام والذكريات لبطل يشعر بالذنب. فاختار أن يكتشف بنفسه ما حدث قبل وجوده، وواجه أخطار التلاشي من أجل ذكرى العائلة.
نفسي أجد أي نقطة سلبية عشان المقال يبقى نقدي وكده ولكنني لم أجد سوى أنني، أثناء القراءة، كنت أتعلم الصنعة من "ميسي القصة القصيرة" ممدوح رزق.
محمود عبد الغني

تحميل دراسة “كيف يخلق الخيال النقدي نصًا شبحيًا؟”


إشكالية الموت في المسرح التجريبي العربي: مسرحية “اللحاد” نموذجًا ـ ممدوح رزق / مجلة “الناقد”، العدد الرابع ـ أكتوبر 2024

تقتحم مسرحية “اللحاد” للكاتب السوري عبد الفتاح قلعه جي الموت من هاجس أصالته التي تسبق الحياة .. الحياة كوهم من الأطياف التعذيبية المخادعة لهذا الموت المتقدّم على ما يسمّى “الوجود” والمكوّن لسرابه .. الوهم الذي لا يتعطّل إلا بالتماهي مع الأطياف، التوحد بجوهرها، أي أن تصير موتًا فعليًا .. التماهي الذي يحرّض المتفرج على تفحص أشلائه التي أخفاها اليقين بكونه حيًا .. ذلك النوع من الإزعاج الذي تبناه بيجي غروتوفسكي:

(وكما يتهم بريخت بدفع المتفرج إلى التفكير؛ فإن غروتوفسكي يهتم بأن “يزعجه” على مستوى عميق جدًا، لكنه ليس أي متفرج، بل هو نوع خاص من الجمهور، ذلك النوع الذي يقوم بتحليل نفسه”. “1”

في مسرحية “اللحاد” التي أخرجها جاسم طلاق وعُرضت في مهرجان أوال 2010 يكافح كل ميت أن يرسم فناءه الاستباقي عبر جثة الآخر .. يلطخ بموته كفن الآخر .. يضاجع الآخر في لوحته كما لو أن الموت يعرّف “الحياة” بتضاجع الجثث التي تخاتل موتها البدائي. 

من هنا تبدو العتمة الجارفة في العرض “إنتاج مسرح الريف بالبحرين” كأنها تجتاح الفضاء المسرحي من داخل الموتى، ومن ثمّ الصمت أيضًا .. العتمة والصمت يتجاوزان تمظهرات الموت التقليدية التي يتناولها العرض إلى حيث تمحو “الحياة” نفسها .. تغيب “الحياة” كفكرة مؤجلة، لم تتشكّل من الأساس، لتحل مكانها أسئلة الفناء وفي مقدمتها استفهام القتل: من يقتِل ومن يُقتَل؟ .. الاستفهام الذي يقاوم “الكلمات” بالدوامات المحتدمة للجسد، المنتهكة بصمتها لإحالات اللغة وتلك صفة دامغة للتجريب المسرحي كما يشير حسن يوسفي:

(إن المسرح التجريبي مسرح مخرجين، وسينوغرافيين أكثر من كونه مسرح كتّاب، فكونه يقوّض سلطة الكلمة والنص ليفتح الباب لسلطة جديدة هي سلطة الجسد، تجعله يرسّخ فهمًا جديدًا للمسرح يتجاوز النظرة الجوهراتية  essentialisteالتي تؤمن بمفهوم الخصوصية وصفاء النوع الدرامي). “2”

أصالة الموت في المسرحية ترادف أصالة القهر في تخطيه لأشكاله أو نماذجه “الحياتية” .. الإضاءة الحمراء الخافتة التي تكشف العدم ساطعًا بوصفه البداهة “الكونية” للقهر، أي ما جعل العالم مقبرة هائلة من قبل الميلاد الأول.

يتناثر الخوف وراء اللوحة .. كل لوحة لميت يريد أن يعدّل بها موت الآخر بما يلائم موته .. يصبح التأمل التباسًا مكرّسًا للعزلة .. للوحشة التي يستوطنها الدود .. لكن الموت يتحوّل إلى لعبة بواسطة الاختباء من سراب الحياة داخل أغواره المهجورة .. يتحوّل الموت إلى “فن”، أو يكتشف بالأحرى “فنيته” .. لا اغتراب هنا بل لهوًا بالاغتراب .. كل ما هو حسي ينسجم مع تبدده لصالح المكيدة التي يشيّدها الفنان للحقيقة .. ما يُطلق عليه الواقع يصبح مجرد حيلة لاصطياد الجوع، الوفرة، الأرق، الطغيان، الذاكرة، التنكيل، الإيمان .. لتفكيك الرموز والمشاعر والأفكار، أو كل ما تستعمله البلاغة لتوطيد الموت .. التفكيك الذي يتجسد عمل المخرج انطلاقًا من معناه كما تشير آمنة الربيع:

(وانطلاقا من معنى التفكيك، يبدو مشروع التجريب قادرا على التجسّد في عمل المخرج، فكأن المخرج الذي قرأ نص المؤلف فأخرجه إنما يقوم بوظيفة في ظاهرها تفكيكي للنص، فإذا سألنا أنفسنا عن سرّ ظاهرة تكرر العروض الإخراجية لنص مسرحي واحد، ما سببها؟ ما هي معطياتها؟ وظروفها؟ إنّ الإجابة موجودة في تجلي توفر القراءات المتعددة للنص الواحد عبر القرون أو العصور المختلفة، وبالتالي، فعقل المخرج المجرّب هو عقل أقرب إلى اشتغال التفكيكي غير (المُطَلسم)، وليس شرطا عليه شرح نصّ المؤلف أو فك رموزه أو تشريحه بلغة النقد، إنما جعل الإنسان في أعماقه، أن يرى ذاته في العرض، وكأمثلة يُمكن الاستشهاد بالعديد من الأساليب الإخراجية المعاصرة لمسرحيات كتبها شكسبير، أو تشيخوف، أو هنريك أبسن، أو جان جينيه دون التضحية بالمسرح الإغريقي. لقد تعددت اللغات الإخراجية للمخرجين المعاصرين لأعمال شكسبير منطلقة من جاذبية النصوص نفسها في الدرجة الأولى، وتبلور فكرة «اللاتعيين» أو «اللاثبات» لمعنى واحد داخل النص، وعليه أخذت لغات العروض تتكرر بصيغ مختلفة. فالمخرج معنيٌّ هنا بَعد قراءته للنص، وتحضيره للإخراج، التفكير في الكيفية التي سيقول بها عرضه المسرحي، وكيف يَظهر بنيانه، والتفكير في كيفية القول مؤشر دال على أن الاشتغال الجمالي لعرض ما تظل مرهونة باللانهائية، وأن الرِّهان على الشرط الجمالي، يبرز من خلال تفكير عقل المجرّب في انتشار علامات النصّ/العرض، ومنح تجربة فعل التجريب لأكثر من نسخة؛ لكي يتيح ذلك قدرًا من تحقيق النص / العرض معنى يتماس مع المتلقي، وليس بالضرورة أن يكون المعنى نهائي). “3”

من هو اللحاد إذن؟ .. أين يوجد؟ .. كيف يحفر قبوره؟ .. في كل حركة على المسرح يكمن خيال الإجابات وليس الإجابات نفسها، ذلك لأن اللحاد مشيئة، إرادة غيبية وليس كيانًا متعيّنًا أو مفهومًا .. يوجد باعتباره سر كل جثة أو ما توصف بـ “الذات” .. الجثة المناقضة لطبيعة اللحاد المجهولة، او ما جعل الذات قبورًا متوارية داخل قبر يتسم بهوية بشرية .. اللحاد هو الحلم التأسيسي للقتل .. الشراهة الأزلية لقبر مفتوح ولم يُغلق أبدًا.

الهوامش

1ـ المسرح التجريبي من ستانسلافسكي إلى اليوم / جيمس روز إيفانز ـ ترجمة: فاروق عبد القادر، عرض: أسامة أبو طالب ـ مجلة فصول (العدد 3 ـ 1 يونيو 1982).  

2 ـ الصورة والتجريب المسرحي / حسن يوسفي ـ مجلة علامات، مكناس المغرب، ع 35 سنة 2011.

3 ـ التجريب المسرحي .. إقامة دائمة في السؤال «1» / آمنة الربيع ـ جريدة “عُمان” ـ 10 يناير 2023.

تحميل العدد

https://www.academia.edu/125131774/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%AF%D8%AF_%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%A7%D8%A8%D8%B9_%D9%85%D9%86_%D9%85%D8%AC%D9%84%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%A7%D9%82%D8%AF?fbclid=IwY2xjawGhe_xleHRuA2FlbQIxMAABHSBJVCDPfnE1Jxgg9ig1QrhXsmhIUVRl9Z2xJXmmYtj7aq38EzUuEaK_iA_aem_PVdnZCV1SB1QyyHKl4XR7g