(وكما يتهم بريخت بدفع المتفرج إلى التفكير؛ فإن غروتوفسكي يهتم بأن “يزعجه” على مستوى عميق جدًا، لكنه ليس أي متفرج، بل هو نوع خاص من الجمهور، ذلك النوع الذي يقوم بتحليل نفسه”. “1”
في مسرحية “اللحاد” التي أخرجها جاسم طلاق وعُرضت في مهرجان أوال 2010 يكافح كل ميت أن يرسم فناءه الاستباقي عبر جثة الآخر .. يلطخ بموته كفن الآخر .. يضاجع الآخر في لوحته كما لو أن الموت يعرّف “الحياة” بتضاجع الجثث التي تخاتل موتها البدائي.
من هنا تبدو العتمة الجارفة في العرض “إنتاج مسرح الريف بالبحرين” كأنها تجتاح الفضاء المسرحي من داخل الموتى، ومن ثمّ الصمت أيضًا .. العتمة والصمت يتجاوزان تمظهرات الموت التقليدية التي يتناولها العرض إلى حيث تمحو “الحياة” نفسها .. تغيب “الحياة” كفكرة مؤجلة، لم تتشكّل من الأساس، لتحل مكانها أسئلة الفناء وفي مقدمتها استفهام القتل: من يقتِل ومن يُقتَل؟ .. الاستفهام الذي يقاوم “الكلمات” بالدوامات المحتدمة للجسد، المنتهكة بصمتها لإحالات اللغة وتلك صفة دامغة للتجريب المسرحي كما يشير حسن يوسفي:
(إن المسرح التجريبي مسرح مخرجين، وسينوغرافيين أكثر من كونه مسرح كتّاب، فكونه يقوّض سلطة الكلمة والنص ليفتح الباب لسلطة جديدة هي سلطة الجسد، تجعله يرسّخ فهمًا جديدًا للمسرح يتجاوز النظرة الجوهراتية essentialisteالتي تؤمن بمفهوم الخصوصية وصفاء النوع الدرامي). “2”
أصالة الموت في المسرحية ترادف أصالة القهر في تخطيه لأشكاله أو نماذجه “الحياتية” .. الإضاءة الحمراء الخافتة التي تكشف العدم ساطعًا بوصفه البداهة “الكونية” للقهر، أي ما جعل العالم مقبرة هائلة من قبل الميلاد الأول.
يتناثر الخوف وراء اللوحة .. كل لوحة لميت يريد أن يعدّل بها موت الآخر بما يلائم موته .. يصبح التأمل التباسًا مكرّسًا للعزلة .. للوحشة التي يستوطنها الدود .. لكن الموت يتحوّل إلى لعبة بواسطة الاختباء من سراب الحياة داخل أغواره المهجورة .. يتحوّل الموت إلى “فن”، أو يكتشف بالأحرى “فنيته” .. لا اغتراب هنا بل لهوًا بالاغتراب .. كل ما هو حسي ينسجم مع تبدده لصالح المكيدة التي يشيّدها الفنان للحقيقة .. ما يُطلق عليه الواقع يصبح مجرد حيلة لاصطياد الجوع، الوفرة، الأرق، الطغيان، الذاكرة، التنكيل، الإيمان .. لتفكيك الرموز والمشاعر والأفكار، أو كل ما تستعمله البلاغة لتوطيد الموت .. التفكيك الذي يتجسد عمل المخرج انطلاقًا من معناه كما تشير آمنة الربيع:
(وانطلاقا من معنى التفكيك، يبدو مشروع التجريب قادرا على التجسّد في عمل المخرج، فكأن المخرج الذي قرأ نص المؤلف فأخرجه إنما يقوم بوظيفة في ظاهرها تفكيكي للنص، فإذا سألنا أنفسنا عن سرّ ظاهرة تكرر العروض الإخراجية لنص مسرحي واحد، ما سببها؟ ما هي معطياتها؟ وظروفها؟ إنّ الإجابة موجودة في تجلي توفر القراءات المتعددة للنص الواحد عبر القرون أو العصور المختلفة، وبالتالي، فعقل المخرج المجرّب هو عقل أقرب إلى اشتغال التفكيكي غير (المُطَلسم)، وليس شرطا عليه شرح نصّ المؤلف أو فك رموزه أو تشريحه بلغة النقد، إنما جعل الإنسان في أعماقه، أن يرى ذاته في العرض، وكأمثلة يُمكن الاستشهاد بالعديد من الأساليب الإخراجية المعاصرة لمسرحيات كتبها شكسبير، أو تشيخوف، أو هنريك أبسن، أو جان جينيه دون التضحية بالمسرح الإغريقي. لقد تعددت اللغات الإخراجية للمخرجين المعاصرين لأعمال شكسبير منطلقة من جاذبية النصوص نفسها في الدرجة الأولى، وتبلور فكرة «اللاتعيين» أو «اللاثبات» لمعنى واحد داخل النص، وعليه أخذت لغات العروض تتكرر بصيغ مختلفة. فالمخرج معنيٌّ هنا بَعد قراءته للنص، وتحضيره للإخراج، التفكير في الكيفية التي سيقول بها عرضه المسرحي، وكيف يَظهر بنيانه، والتفكير في كيفية القول مؤشر دال على أن الاشتغال الجمالي لعرض ما تظل مرهونة باللانهائية، وأن الرِّهان على الشرط الجمالي، يبرز من خلال تفكير عقل المجرّب في انتشار علامات النصّ/العرض، ومنح تجربة فعل التجريب لأكثر من نسخة؛ لكي يتيح ذلك قدرًا من تحقيق النص / العرض معنى يتماس مع المتلقي، وليس بالضرورة أن يكون المعنى نهائي). “3”
من هو اللحاد إذن؟ .. أين يوجد؟ .. كيف يحفر قبوره؟ .. في كل حركة على المسرح يكمن خيال الإجابات وليس الإجابات نفسها، ذلك لأن اللحاد مشيئة، إرادة غيبية وليس كيانًا متعيّنًا أو مفهومًا .. يوجد باعتباره سر كل جثة أو ما توصف بـ “الذات” .. الجثة المناقضة لطبيعة اللحاد المجهولة، او ما جعل الذات قبورًا متوارية داخل قبر يتسم بهوية بشرية .. اللحاد هو الحلم التأسيسي للقتل .. الشراهة الأزلية لقبر مفتوح ولم يُغلق أبدًا.
الهوامش
1ـ المسرح التجريبي من ستانسلافسكي إلى اليوم / جيمس روز إيفانز ـ ترجمة: فاروق عبد القادر، عرض: أسامة أبو طالب ـ مجلة فصول (العدد 3 ـ 1 يونيو 1982).
2 ـ الصورة والتجريب المسرحي / حسن يوسفي ـ مجلة علامات، مكناس المغرب، ع 35 سنة 2011.
3 ـ التجريب المسرحي .. إقامة دائمة في السؤال «1» / آمنة الربيع ـ جريدة “عُمان” ـ 10 يناير 2023.
تحميل العدد