السبت، 2 فبراير 2019

مرويات الذئب: خيالات الأعمي الغائب

"نظرة الذئب تحكي وحدته، وانطفاء حدقتيه يحكي عزلته واصطباره".
يبدو هذا كأنما يعني أن خيالات الذئب سيخلقها نوع من العمى .. أن طعنة الخنجر من يد الخاقان في خاصرة الفريق أول التي بدأ بها لؤي حمزة عباس كتابه "مرويات الذئب" الصادر عن دار شهريار لن تنتج رؤية وإنما استبصارًا غائمًا لما لا يمكن إدراكه .. ستشكل هذه الخيالات عبر هاتين العينين مخلوقات العالم في تركيبتها الغامضة باعتبارها تكمن داخل جسد الذئب نفسه .. تمثلات مخبوءة لروحه الغائبة، تقع خارج الزمن، وما قبل التاريخ، أي كأصل لامتناهي يجثم حول الحياة والموت.
"في تلك اللحظة سمعت صرخة الفريق أول سيسانوف، وتراءت لي حدقتي الذئب وهما تلتمعان، بعد أن ختم الخاقان المعاهدة وعاوده الهدير، نهض متقدمًا من الفريق الذي انشغل بالنظر إلى مفاتيح أبواب القلعة في يد الخاقان، عندما صار الخاقان إلى جانبه سحب الخنجر بيسراه وطعنه في خاصرته، صرخ الفريق أول من هول المفاجأة وضراوة الألم وتهاوى على كرسيه قبل أن يسقط رأسه على الطاولة".
أحيانًا تكون هذه المخلوقات هم ساكني المصابيح الذين سقطوا في يد الذئب المرتجفة التي أرادت إنقاذهم مثلما أرادت يد الخاقان أن تنقذ أهل باكو بواسطة الطعنة القديمة .. كأن جسد الذئب في حقيقته مدينة مجهولة، وكأن أولئك الذين بحجم ساق الدودة أو أصغر هم كائناتها، أما المصابيح فكأنها العيون الداخلية للذئب التي لا تتوقف انفجاراتها المتلاحقة غير المرئية في صمت .. كأن هذه المصابيح هي الإثبات الذاتي للعمى .. لا يتعلق إنقاذهم بالفناء وحسب، وإنما في ذلك الاختفاء المبهم الذي يسبق الفناء .. في عدم الوجود الذي يتقدّم على الضياع الأبدي.
"في طفولته ركل كرة جلدية كما يركل الأطفال جميعًا الكرات من كل نوع، فحلقت عاليًا، ليس عاليًا جدًا، كان علوًا كافيًا لكي تصطدم بمصباح الشارع، انفجر المصباح على الفور، وشاهد من مكانه ذرات الضوء تتساقط مثل ندف دقيقة من الثلج، وسمع صوتها وهي تستغيث، فعرف، منذ ذلك الوقت، أناس المصابيح، ومنذ ذلك الوقت أخذ يجمع المصابيح المحترقة".
إن الاختفاء ليس نقيضًا للحضور هنا، بل هو محاولة للقبض على زيف التجسّد .. كفاحًا مستمرًا لرسم ملامح صائبة لوهمه .. يتحوّل الماضي المفقود إلى ذاكرة مؤقتة تطمح لتكوين صورة عن وجود لم يحدث .. عن عالم يفترض حقيقة لنفسه، ولكنه يظل منفصلًا عن الوعي الذي يتأمل تبدده .. الصديقان في قصة "طريق الغابة" كانا افتراضًا قبل افتراقهما .. ثمة غياب مشترك يسبق ضياع أحدهما داخل شجرة عالية .. كأن الشجرة هي مدينة ومصباح أيضًا؛ لذا فاختفاء الصديق يتم داخل جسد الآخر أي الذئب الذي ستحاول خيالاته أن تخلّص هذا الغائب من الاختفاء .. أي تخلّص نفسه من "اللاوجود" الذي سبق غيابها .. الطفل إذن هو الفكرة الاستبصارية لعيني الذئب عن العمى .. احتمال عن الحياة والموات يراقب ذاته كجزء من العدم .. نلاحظ دائمًا أن الأمر أشبه بصيرورة تكاد تعادل العود الأبدي، ولكنها قائمة على الاختفاء والحضور .. تكاد تكشف عن حتميتها كمضاجعات ملعونة .. شيء ما يغيب داخل فضاء مغلق .. شيء يقر باختفائه أنه لم يكن موجودًا أصلًا .. ثم يأتي ظهوره المغاير كرجاء خيالي أقرب لجثة تتصوّر حركة ما في الظلام .. بهذا يقر الشيء مجددًا أنه لن يوجد.
"عاد من الجبهة مباشرة إلى الغابة، ووجد الشجرة العالية كما هي، انتظر إلى جوارها، لكن صديقه لم يظهر أيضًا، فعاد إلى حياته: عمل وتزوج وصار أبًا، سألته زوجته عن الاسم الذي يحب أن يطلقه على الطفل، ولم يكن في ذهنه غير اسم صديقه. بعد سنوات ضاقت المدينة، مثل كل المدن، فردمت الغابة وقطعت أشجارها إلا الشجرة القديمة العالية".
حينما يُعتقد أن هناك حيوانًا يعيش داخل الذات، وأن البحر هو المكان المناسب لخروجه؛ فإننا لن نستعيد فحسب هدير البحر في رأس الخاقان قبل أن يطعن الفريق أول، بل سنفكر أيضًا في كائنات المصابيح، وبالضرورة في ذلك الغائب داخل الشجرة .. الحيوان كاستفهام الكينونة المرجأة .. الوجود المفترض أو المتوهم الذي لابد أنه في الداخل على نحو ما .. الذي يخبئ دوافع ظهوره غير القابلة للجدل .. يترك الذئب ـ أو بالأحرى عينيه اللتين تحكيان وحدته ـ مسافة من جسده كي يسرد عن الذات التي يتخيلها .. ليتوحد بنفسه المختفية .. ليعثر على تمثلها الغائب .. إذن هو لا يستوعب شيئًا يتجاوز عمائه.
"تحت إحساس بغرابة أن يحيا حيوان في دواخل نفس بشرية، وعلى نحو لا تفسير له، فكر بالبحر المتلاطم والحنون، ركب دراجته الهوائية وتوجه نحو الساحل معتقدًا أنه المكان المناسب لخروج الحيوان، كان الهواء البارد يضرب وجهه حينما فكر بالناس الذين يراهم على الساحل في كل وقت، يجلسون، أو يستلقون أو يتمشون، يحدثون البحر أو يستمعون إليه، وقد انصتوا لرغبات حيوانات دواخلهم، وهم يأتون للبحر من دون أن يعرفوا لذلك سببًا".
بهذه الكيفية فإن جسد الذئب هو الغرفة الصغيرة الضيقة في قصة "البرعم"، وإن الحبة التي أنبتت من الحفرة الضئيلة في أرضها برعمًا دقيقًا أخضر اللون قد ألقاها الطائر داخل هذا الجسد .. كذلك البرج الذي ينزل الذئب سلالمه اللانهائية بتحريض من صوت مبهم، حاد النبرة في قصة "نزول السلم الحجري" فإنه يوجد في عتمته الداخلية .. كأن البرعم يحمل أرواح أولئك الذين سقطت أسماؤهم عن الوجوه التي يتذكرها الذئب، وكذلك أسماء الذين لا يعرف وجوه أصحابها في قصة "ما يعز تذكّره" .. كأن النزول الأبدي للبرج هو مصير ذلك الذئب الوحيد الحالم بالطيران في قصة "الذئب عبر النافذة".
"كان بوده لو يقترب منه أكثر، يسأله عن سبب وجوده في الداخل، لكن الذئاب لا تحسن الكلام بكل أسف، تقدم خطوات ومسح على الزجاج بجبهته الضيقة ثم نظر إلى عيني صاحبه اللتين ما كانتا تلتمعان مثل عيون الذئاب الطليقة، تراجع حتى اصطدم الجدار المقابل، توقف قليلا وحرك رأسه حركة ذئب حائر، إلى الأعلى وإلى الأسفل، أرجع أذنيه حتى لامستا رأسه، ثم ضيّق عينيه وحرك ذيله مزمجرًا، سمع الرجل من مكانه في الطابق الأرضي زمجرته وأحسها قادمة من مكان بعيد، وبكل ما في بدنه من قوة شعر به يندفع نحو النافذة".
أتذكر الآن "هنري بتلر" المصوّر الأعمى الذي التقط بحدسه ـ من ضمن ما التقط ـ صورة لجذع شجرة تشبه ساق إنسان .. أحب التفكير في أنها الشجرة التي  اختفى داخلها الصديق / الصورة الغائبة للذئب في قصة "طريق الغابة" .. أن المصوّر لا يفكر في العمى بوصفه معاديًا للرؤية، وإنما قرينًا للخيال الفاضح لوهم البصر .. أن "هنري بتلر"، مثلما أراد لؤي حمزة عباس أن يكون في مروياته، هو الذئب الذي حينما التقط صورة الشجرة فكأنما كان يلتقط صورة لنفسه.
جريدة "أخبار الأدب" ـ 3 فبراير 2019