الجمعة، 18 أغسطس 2017

الخروج من الزمن في قصص ليديا ديفيس

ترجم أحمد شافعي مؤخرًا بجريدة (عمان) ثلاث قصص للكاتبة الأمريكية ليديا ديفيس تُجسّد ما يمكن النظر إليه كملامح للزمن، داخل الإطار المكثّف والمعتاد عند (ديفيس) .. في القصة الأولى يتم تناول (بعض) عادات رجل ما في الشراب؛ فهو يحب أن يشرب في الأماكن التي لا يعرفه أحد فيها، ولا يقيم الناس المارون بها ـ الذين يكونون على سفر، أو على وشك أن يكونوا على سفر ـ روابط شخصية، مثل حانات المطارات، والقطارات .. هذه الأماكن مكرّسة للوجود المؤقت، لذا فدخولها يمثّل خروجًا من الزمن الشخصي المستقر نحو نوع من الخلاص العابر .. يمكننا تخيّل صور التحرر ـ أو العادات الأخرى في الشراب ـ التي يمارسها الرجل من الشروط القهرية للواقع الذي غادره للحظات خاطفة: الاعتراف .. الهذيان .. التطفل .. الكذب .. لن يكون الرجل ملزمًا بالثمن التقليدي الذي يُحتم عليه أولئك الذين ينتمون إلى الزمن الثابت أن يدفعه؛ إذ أن لقاءه بالغرباء في تلك الأماكن لن يكون خطوة تمهيدية لهزيمة ما، أو تبادلًا خبيثًا لوعد جماعي يتجهّز لأن يصبح غدرًا أبديًا، بل يحكم هذه المصادفات تواطؤ ضمني على حماية المساحات الفاصلة، وعدم التورط .. لن يكون الرجل جزءًا من حيوات هؤلاء الناس، كما أنهم لن يكونوا جزءًا من حياته، ولهذا سيشبه اللقاء صفقة غير مكلّفة، قد تنطوي على احتمال لإنقاذه، كما أن الرجل لن يعتبر هذه المصادفات إهدارًا للعمر ـ مثلما هو الحال في الزمن الشخصي ـ بل فرصة استثنائية لتأمل هذا الضياع .. للتمعن في السر الثمين الذي نفقده كل لحظة، ولا يمكننا فهمه، أو استرجاعه، أو تعويضه لدرجة أننا (في الثامنة والعشرين، نتوق إلى أن نكون ثانية في الرابعة والعشرين)، وهذه الكلمات بين القوسين هي القصة القصيرة الثانية التي تحمل عنوان (الخوف من الشيخوخة)، مع تعديل من جانبي لصيغة الجمع .. إن هذا الشوق للرجوع أربعة سنوات فقط للوراء هو إشارة ساطعة لما تعنيه الشيخوخة حقًا؛ فالزمن هنا يٌعرّف كامتزاج بين اليأس وإدراك فداحة ما يضيع على نحو متواصل .. إذا كانت إعادة الميلاد معجزة مستحيلة، وإذا كان استرداد الطفولة سيظل ممتنعًا عن التحقق؛ فإننا ـ على الأقل ـ ندرك بطريقة ما مدى الخسائر الغامضة التي تراكمت في أرواحنا خلال الماضي القريب جدًا، وهي أكبر مما يمكن تصديقه، أو إبعاده عن كوابيسنا .. بالرجوع إلى القصة الأولى في ضوء هذا الخاطر سيمكننا التفكير في أن الناس الذين على سفر أو على وشك أن يكونوا على سفر في حانات المطارات أو في القطارات لن يساهم اللقاء بهم في التقدم نحو الشيخوخة بل سيكون أقرب إلى التحليق فوق حتميتها، أو سخرية ضرورية من غريزة الزمن التي تقوده بهذا اليقين الذي لا يمكن تعطيله.
في القصة الثالثة، والمسمّاة (جارنا الشاب وسيارته الصغيرة الزرقاء) تقدم ليديا ديفيس وصفًا مختصرًا للواقع أو الزمن الشخصي، الذي يتم الخروج منه إلى أماكن الوجود المؤقت .. إنه (الضجيج) الذي لا يُعد الإزعاج الناجم عن حركة الجار الشاب بسيارته الصغيرة الزرقاء إلا مجرد تعبير عنه .. الجلبة التي تتعاقب الهزائم والوعود المغدورة داخل ظلامها .. الأسرار الثمينة التي يتوالى فقدانها حيث امتزاج اليأس بإدراك فداحة ما يضيع، وعدم القدرة على تصديق أو إبعاد الخسائر الغامضة التي تتراكم عن كوابيسنا .. لننتبه إلى العلاقة بين هذا الضجيج وكلمة (بعض) التي تم وضعها بين قوسين في عنوان القصة الأولى، والشكل المكثّف للغاية الذي كتبت به (ديفيس) هذه القصص .. لننتبه تحديدًا إلى الحس التهكمي المتحسّر في هذين القوسين؛ فالرجل لديه (ضجيج) أكثر وحشية من أن يتم وصف الاحتياج للخلاص المؤقت منه بـ (بعض) العادات التي يتسم جوهرها ـ رغم قناعها التقليدي ـ بطبيعة استغاثية .. يفرض الزمن الشخصي على هذه التوسلات أن يبقيها دون غنيمة حقيقية، كأنها إجراءات تخص أي روتين آخر، ولهذا ستبقى (عادة) من (بعض) عاداته في الشراب .. هنا يأتي دور الشكل المكثف للقصص الذي يؤسس انطباعًا جماليًا بأن المصادفات العابرة للرجل في حانات المطارات أو في القطارات هي اختلاسات مقتضبة بعيدًا عن الضجيج .. (بعض) من الاستراقات الصغيرة، والمتعبة للعالم خارج الزمن الشخصي، المنذورة للإخفاق كأي عادة.
جريدة (القصة) / العدد التاسع ـ أغسطس 2017