السبت، 5 أغسطس 2017

مولانا المقدم: سينوغرافيا السلطة

هل هناك لحظة يمكن عندها التوقف عن تكرار الاستفهامات الأزلية عن السلطة؟.. ثمة إلحاح متصاعد لهذا الهاجس قد يسيطر علي قراءة مسرحية (مولانا المقدّم) للكاتب وليد علاء الدين، الصادرة حديثًا عن سلسلة المسرح بالهيئة المصرية العامة للكتاب.. نحن هنا أمام إعادة استخدام تبدو لا مفر منها لإرادات القوة التي تخوض نفس الصراع.. الأديب الذي يتسم بكثير من الطوباوية.. المحامي المكرّس لتحويل القانون إلي توظيف براجماتي للظلم.. المصارع ضخم الجثة، والذي يفوز بكرسي العرش ويتحوّل إلي (مولانا المقدّم).. يقدّم كل طرف من هذه الأطراف خطابه التبريري إلي ذلك الكائن الذي يبدو خارج الصراع، أو بشكل أدق الذي يجب أن يكون حقلا خاضعًا لمشروعيته وهو (المهرج)..يطمع كل منهم في الحصول علي (الاعتراف) بأحقيته في الحكم، أي أن يكون هذا المهرج هو الأداة الموضوعية لعقاب الآخرين.. لكن المهرج الذي يُذكرنا بالأعمي في مسرحية (الشحاذ أو الكلب الميت) لبرتولد بريخت، حيث تحطم الاعتداد المتفاخر للقيصر أمام سخريته الخبيثة؛ هذا المهرج لا يطرح نفسه ككيان مستقل، يجسّد الطابع العبثي للصراع بإعطائه مهمة الاختيار للحاكم بين الشخصيات الثلاث، وإنما يبدو أيضًا كشبح من الصدأ اليائس، الذي يعكس الطبيعة الجوهرية لأطراف الصراع؛ فالأديب والمحامي والمصارع مفتول العضلات تحرّكهم خيوط ذاتية من الخسارات التي تشكّل ذاكرة كل منهم، والتي ستتحوّل إلي دوافع للهيمنة.. الأديب هو كاتب لم يستطع أن ينجح في هوايته، كما كان زوجًا يُعاني من العيش مع زوجة مرعبة، وسبق له أن كتب مسرحية بعنوان (الدقيقة الأخيرة قبل الانتحار) التي تخيّل فيها تحوّل الإنسان لشخصين لا يفهم أي منهما الآخر.. المحامي الذي يسخر من الأديب، ومن العدل الذي لا يوجد إلا في الروايات، ويستعرض (بحسرة) مهارات الاحتيال والخداع والغش التي تستعمل القانون لخدمة الربح التجاري.. الحداد، الذي لعب المصارعة، صاحب الحياة الفارغة، التي تخلو من الأصدقاء، والذي تزوج كثيرًا وطلّق كثيرًا، وانتهي به الأمر إلي الالتحاق بالقوات الخاصة في الجيش وهو الأمر الذي علينا أن ننتبه إليه جيدًا.(كان كل همي في الحياة، إني أبقي إنسانا مهما، الناس تبصله نظرة احترام، مش خوف، واتمنيت إنه ييجي اليوم اللي أبقي فيه عظيم... دخلت الجيش، قوات خاصة رغم إني معنديش شهادة، قوتي كانت شهادتي، عملت عمليات كتير انطلبت مني، مكنتش بسأل، أنفذ وبس، اتعينت شرف، واترقيت وكنت موعود  برتبة واستكمال خدمة.. هي مش رتبة كبيرة يعني ابتأثر واضحب لكن خلاص كل شيء انتهي، كل شيء انتهي).
سيقترن تكرار الاستفهامات الأزلية عن السلطة علي نحو ضمني، بفكرة الثورة خاصة مع هذا الانحياز في المسرحية للأديب الذي يُعيّن نفسه من خلال خطاب الديمقراطية والثورية (أو ما يُسميه تحريك الوجود داخل العدم) كحقيقة مثالية مضادة للطغيان المحكوم بالحماقة، والمتمثل في المصارع ضخم الجثة الذي يفوز دون حق بكرسي الحكم، كما أن هذا الأديب سيُعيّن نفسه أيضًا كيقين مُعادٍ لإخضاع (لعبة العدالة) إلي سطوة هذا الحاكم، وهو الدور الذي سيُكلف به المحامي، المتسق مع حياته السابقة.(الرجل: »ثائرًا» رعية مين، اسمع، الحكم هنا للأقوي، ومادمت أنا الأقوي، يبقي أنا الحاكم، واللي مش عاجبه يفرجني نفسه...
الأديب: "متفاديًا ثورة الرجل" مين إللي مش عاجبه ده! لكن تسمح لي أقدم رأيي، أظن الديمقراطية تحتم ذلك..
الرجل: "بدهشة" ديمقراطية!! إزاي يعني!
المحامي: "ساخرًا" الديمقراطية حاجة زي الفول والطعمية...
الأديب: الديمقراطية، هي حلم الإنسان، الديمقراطية هي أن يصبح الإنسان إنسانًا، أن تحترم آدميته، أن يكون عقل وروح وجسد، وليس فردا في قطيع).
لكن هناك محاولة لتبيّن الوجه الآخر من الصراع، والمتعلق بتأثير الهزائم الفردية علي الفعل الجماعي.. يضع وليد علاء الدين دائرة حول هذه المنطقة الملغزة التي تسبق الصراع، أي التي تبدأ معها حتميته الفعلية داخل كل جسد لم يمتلك بعد الوعي الكافي للتأمل فيما يمكن أن تعنيه مواجهة الآخرين، أو بشكل أكثر تحديدًا الكائن الذي وجد نفسه في قلب هذه المواجهة لمجرد أنه امتلك هذا الحضور في مكان لا مجال فيه سوي لضرورة تحطيم الآخر.(يتصارع الجميع، ويحتدم الصراع في دائرة بينما المهرج يتقافز حولهم ويضحك في هستيريا.. الأديب يقف متفرجًا غير بعيد، ينتهي الصراع لصالح الرجل الذي يتغلب علي الجميع، يضعهم تحت قدمه ويقف معلنًا قوته.. يسارع إليه المهرج، ويسلمه المسدس ويضع الطرطور علي رأسه.. ويصرخ: عاش.. عاش.. الطرطور).
يختار وليد علاء الدين ما بعد الموت وما قبل الجحيم كزمن لمسرحيته، وهو ليس مجرد إعطاء صفة الأبدية للاستفهامات المتكررة عن السلطة، وإنما كتخليد لأطرافها التقليديين أيضًا عن طريق تثبيت الإرادات التي تنتج خطاباتها بوصفها ممرات يقينية للجحيم.. علي جانب آخر يقترح وليد علاء الدين سينوغرافيا من الظلام والضوء الخافت والظلال ومنطقة فسيحة تبدو جزءًا من واد صخري حيث لا ينشأ عن تواطؤ هذه العناصر الشعور بالخواء المبهم الجدير بزمن المسرحية بقدر ما يصوّر هذا التواطؤ موضوع السلطة في تاريخ كل شخصية، فكرتها الغامضة، أو خيالها الموحش الذي لا سبيل لقهره.(المحامي: يامولاي، أنا وصلت لك الكلام ده، لأني واثق في ديمقراطية حكمكم، وإنكم مش هتسمحوا للعناصر الهدامة دي إنها تسعي بين الرعية بالفساد.
المقدّم: مظبوط، مظبوط... بس تعرف هما بيجيبوا الأفكار الهدامة دي منين؟
المحامي: الأديب يا مولاي... الأديب، اللي كان بيدعي صداقته بجلالتكم، هو إللي بيروج للأفكار المريضة دي، دي بنات أفكاره يا مولاي.
المقدّم: بنات أفكاره؟!
المحامي: أيوه يا مولاي، بنات أفكاره الخبيثة، المريضة، دا بيحاول يقنع الناس بأنه أصلح الناس للحكم، والعياذ بالله... وأنا نبهته، نبهته يا مولاي، وقلت له إن إللي بيعمله ده يعد في القانون خيانة عظمي، أيوه خيانة عظمي، وعقوبته القتل، الإعدام).
ماذا لو تخيلنا أن (مولانا المقدّم) ليس سوي كابوس مشترك بين الشخصيات الثلاث تحوّل فيها الواقع إلي حالة رمزية تتخلي مؤقتًا عن القمع داخل اللاوعي، وأن ذهابهم إلي الجحيم ليس إلا عودة للواقع بعد الاستيقاظ، وقد أدركوا من خلال هذا الكابوس أن ما يظنونه صحوًا هو النهاية التي يرغبون في الحصول علي ما يرغمهم علي الإيمان بأنهم قد أصبحوا يعيشونها حقًا؟.. ماذا لو أنصتنا الآن بما يجعلنا قادرين علي استيعاب الظلام، وسماع صوت المذيع الداخلي الذي قال في نهاية المسرحية: (السادة الأموات في الصالة نرجو التوجه إلي الرحلة رقم.. الحظة صمتب.. مش مهم الرقم.. المهم التحرك نحو المصير، وعلي السادة الأموات الجدد التزام أماكنهم في صالة الترانزيت.. مطار الجمهورية الطرطورية يتمني لكم ترانزيت هادئ)؟.
جريدة (أخبار الأدب) ـ 5 / 8 / 2017