الأحد، 4 يونيو 2017

٧٧:‬ كأنها أربعون سنة أخرى

هناك وظيفة جمالية في قصائد ديوان 77 لأحمد شافعي الصادر حديثًا عن الكتب خان يمكن التفكير في طغيانها علي المدلولات الشائعة للإيجاز الشعري، دون استبعادها: تمرير الضجر.. تثبيت وعي الذات بالخصومة مع الزمن.. الإيحاء بالوهن الذي لا يتحمّل إلا أقل الكلمات.. توسيع الرؤية، أو زيادة معني العالم بالإمساك به في شبكة علاماته المختصرة بتعبير "بول ريكور".. هذه الوظيفة يمكن تحديدها في إعطاء صورة للمنطق الذي لا يتطلب استدعاء وفرة من الإشارات التي تؤكد الثقة في امتلاكه.. كأنه بعد وقت ما من الميلاد في عام 1977، وفي سن الأربعين مثلا الذي يصل إليه الشاعر هذا العام، يمكن لشخص ما أن يحصل علي انتباه استثنائي تجاه حصيلته من لامنطق العالم، وأن يكون بوسعه استعمال هذه الحصيلة كخامات بنائية في خلق مسايرة لانضباطه الظاهري.. أن يشيّد وهمًا موازيًا لما يدعي أنه نظام محكم من البراهين الحاسمة أو الإجابات المتاحة.. هي نبرة كاشفة لا تتخلي عن الرصانة مع كامل تنويعاتها المقتضبة.. يصبح لامنطق العالم هو اللامنطق الشخصي مستعيرًا صلابته المخادعة، أي متخذًا وضعية الفضح دون ضجيج.. كأنه في سن الأربعين يمكن القبض علي مفترق طرق داخل صيرورة الحياة والموت، أي داخل عُمر الذات التي ربما تتمكن حينئذ من تأمل معاركها بنقاء غير مسبوق.. أن يجرّب البهلوان حيلة منتظرة للحبل الذي لم يصر مشنقة، وأن تظهر قصيدة منقذة لاستيعاب الترمّل من بقايا كلمة مكشوطة في المعجم.. الذات المعادية لنفسها كظل يتعثر في أشياء لا توجد في ذاكرته.. الذات كعقبة أمام نفسها بوصفها الوجود الكلي الذي صارت إليه، وقد تجردت عناصره من ميوعتها.. كأن الأربعين هي فرصة لرؤية الحرب من زاوية جيدة.
"رحلة طويلة علي الحبل/ وها هو في منتصف العمر/ وسط أرامل مجهدات/ في أذرعهن آثار خدوش قديمة/ صامتٌ صمتهن/ أرمل مثلهن/ يمتنّ للحظ وحده/ أن حبلا تحت رجلي البهلوان/ لم يصر له مشنقة/ وقد يفتح المعجم/ بين الحين والآخر/ ليكشط كلمة/ راجيا أن تظهر له من البقايا/ قصيدة".
> > >
القبض علي مفترق الطرق، والناجم عن امتلاك علامات اللامنطق التي تكمن وراء التماسك "المنطقي" هو دافع لتكوين مفاصل.. اقتحام فجوات.. تأطير مناطق عازلة.. حيازة ارتقاءات لاختبار التدمير كهوية من وراء مسافة آمنة.. التدمير الذي قد يعني إرسال وخزات مبتورة من ضوء خافت، لا يريد أن يبدو كومضات ألم فحسب، بل كفكرة جادة.. حياد حقيقي تستطيع أن تتحرك الذات بالاعتماد علي ضلالاته المقتصدة.. أن تتنقل داخل تلك الغايات المبهمة، التي تجعلها قادرة علي أن تُعري سجنًا ملتصقًا بعينيها في كل مكان.. يريد هذا الضوء أن يبدو كمعرفة كي يمكن رصد تظاهرها بالثبات في مواجهة الثبات الأكثر شسوعًا وقِدمًا، ولكنه ليس الأكثر شجاعة.
"كلَّما سكنت في منزل/ تبيَّن أن هناك سجنا علي مقربة/ لا أنني سييّء الحظ بالضرورة/ إنما غلطتي كلَّ مرةٍ أنني/ أمعن النظر".
لا يأخذ الديوان طبيعة المسيرة بل التناثر.. قد نفكر مع هذه القصائد في حركة غير مشغولة بالهيمنة بقدر ما هي راغبة في توزيع اتجاهاتها، بالضبط كانتشار النور والظل فوق اللوحة.. هي حركة داخل الجسد، أي من الوعي وإليه، عبر فوران العالم.. لكن ما يبدو أنه عدم انشغال بالهيمنة هو جزء من لعبة الادعاء؛ إذ أن هناك تحت هذه القشرة المتنكرة في هدوئها المستقر يعيش هاجس شبق للفيض، للتدفق والإحاطة، ليس في حدود الواقع الذي بدأ عام 77، وإنما بما قبله وبعده.. عند هذه النقطة يمكن الاشتباك مع الديوان بوصفه خالقًا لأحمد شافعي في لحظة ميلاده الفعلية عام 77، ولكن علي نحو يتيح لذاته أن تمتد داخل الزمن الذي سبقها، والزمن الذي سيعقب نهايتها، أي أن يتوحد بأزليته وأبديته عبر هذه اللحظات الصغيرة، والطارئة.. هنا ستبدو الحياة المنقضية كأنها أربعون سنة أخري.
"ها أنت والقصيدة انتهت/ لست محبطًا/ لأنه لم يكن طائرا بالأساس/ لست محبطا وحسب/ هناك سعادةٌ أيضا/ حين تكتشف كنزًا/ كنت تجهل دائما/ أنه لديك/ حين تعرف أن عندك طائرًا/ هو أرقُّ من يمامة/ وأدقُّ من هدهدة/ هو رِمْشٌ/ في غير موضعه".
في ديوان "77" لا نقرأ قصائدً عن الحب، بل نتتبع الأثر التشريحي لموضوعه.. نتفحص طبيعة الانتماء كجوهر أصيل له.. لكن هذا الانتماء هو في نفس الوقت علامة المقاومة لحتميته.. دليل رفضه.. تحريض علي التمعّن في ضرورة هذا الرفض.. تشكيل هوية له باستخدام كوابيسه.. كأن الحب هو طريقة مثالية لمراقبة الانفصال كسرٍ ثمين.. للتعرّف علي الضرر الفادح لأن تكون منتميًا لآخر.. لملامسة القتل كتسمية صحيحة لأسلوبك في مقاومة هذا الانتماء.
> > >
"كلما أحببت/ رأيت نفسي مع امرأةٍ/ واقفين في شباكٍ،/ أو شرفةٍ/ علي شاطئ بحرٍ/ أو في/ محطة في الفضاء/ ومن كل تلك النوافذ/ تظهر الأرض كرةَ بلياردو/ تنتظر دفعةً/ تتدحرج/ ساطعةً إثرها/ نحو ثقب أسود".
"كلما أحببت/ فكرت أنني يوماً ما سأعيش/ أعتني بماعز/ هذا ليس رأيي في المرأة/ هذا رأيي في نفسي/ راعٍ غير متمرِّس/ يعتني في إخلاصٍ/ ثم يذبح بلا ضغينة".
كأن الحب وسيلة ناجحة لاستبصار خواصه كمحرّك للهلاك الذي يتجاوز عاطفة بين اثنين يقفان عند حافة.. لإدراك التوهان الناتج عن الفشل في العثور علي الكلمة الصائبة، والقاطعة والمحصنة، الملائمة للقتل، والتي لا أثر لها في المعاجم.. هذه الكلمة هي خواء المنضدة، والقبلة التي فيها شغف كل القبلات التي لن تكون، مثلما كانت الثقب الأسود الذي تتدحرج الأرض نحوه.
"كلما أحببت/ فكرت في منضدة خاوية/ وفي محل زهورٍ/ وفي قولي للبائع أيَّ شيءٍ/ عدا الحقيقة:/ أبحث عن إكليل ذابل/ لمنضدة يانعة".
"كلما أحببت/ فكَّرت في القبلات/ في خدِّي بين يدين/ ولساني بين شفتين/ وفي رموش أخري
تمسُّ ما لا تمسُّه/ إلا رموشي./ في أن أبدأ قصة حبي/ بما يرجأ عادة للنهايات: قبلة فيها شغف كل القبلات/ التي لن تكون".
"كلما أحببت/ أشركت بنفسي/ وعلمت أنه كان ثمة كلمة/ لا أثر لها في المعاجم/ كلمة هي العابد والمعبود معاً/ لكنني كلما أحببت/ ضيّعتها".
يبدو ديوان "77" كأنه يطالب بعدم إهمال هذا الحضور للنظرة في قصائده.. التقاء العينين بغيبٍ ما.. هناك دائمًا نظرة تشاهد من بعيد كرؤية فعلية، أو تخيّل، أو رجاء، وعلينا الانتباه إليها جيدًا حتي في لحظات اختبائها.. حتي في لحظات تفاديها الواضح للنظر.. النظر إلي السعادة والخيبة في تماثلهما.. في علاقتهما بالانضباط المزيف.. باللامنطق.. بالحب كفرصة لألوهة مضادة، تبدأ التاريخ مرة أخري، تكشف ماهيته، ثم تدفعه لنهايته "المنطقية".. هذه النظرة الدائمة توجد في كل قصيدة، أي أنها داخل كل مكان وزمن، ولكنها أيضًا وبشكل أساسي ليست إلا سنة "77" تشاهد من بعيد.. تدوّن ما تقتنصه بهذا الإيجاز الملتزم بالمزاج الشكلي للسقوط، كأنها ترسم شعريًا مخططًا لبصيرتها المنهارة.
"أريد أن أكون ولو مرة/ علي الشاطيء الآخر./ أن ألقي ولو نظرة واحدة/ من هناك".
تؤلف العلامات المختصرة ما يمكن اعتباره لغة خاصة تتسق مع الصلابة المخادعة للامنطق.. هذه اللغة هي الأساس لهوية التدمير، لحركة الهيمنة، ولمقاومة الانتماء.. إن لغة أحمد شافعي تجعل الأفعال والأشياء مرادفات لبعضها بكيفية غير مباشرة.. تضع كل موجود كمعني محتمل لأي موجود آخر، وفي هذا نوع من المجاهدة لإزاحة الذات من أمام نفسها بوصفها عقبة.. إذن هي ليست لغة خاصة فقط بل صيرورة خاصة أيضًا.. مطاردة للكلمة المستحيلة عبر استمرار نهم للاستعارة والاندماج والتكامل والتخطي.. بهذا يمكن لأي (منطق) أن يصبح مخذولا، أي فاضحًا لنفسه.. يصبح خيطًا ناصعًا منفلتًا من نسيج هائل بما يشبه قبلة فيها شغف كل القبلات التي لن تكون.
"سنوات/ وهو يجلد المعجم/ كي يعطيه عشرة مرادفات/ لـ أنا،/ ويجوِّع كلمة في بئر
إلي أن تعني ما لم تعن من قبل/ سنوات وهو يغتصب أفكاره/ فيخرجن في الليل بأذرع دامية/ وحلمات مقطوعة".
> > >
أفكر الآن في شخص ولد عام 1977 . كان يعتقد وهو طفل صغير جدًا أن الدنيا ـ لسبب مجهول ـ خلقت خصيصًا من أجله، وأن كافة البشر: أسرته، وعائلته، وجيرانه، وكذلك الناس الكثيرة جدًا، الذين يسكنون البيوت والمدن الأخري، ويسيرون في الشوارع، ويتحركون داخل التليفزيون، ويسمع أصواتهم في الراديو، وتظهر صورهم في الصحف والمجلات، ويتظاهرون بأنهم لا يعرفونه، هم في حقيقة الأمر ينفذون مهمة سرية تجاهه، تم تكليفهم بها من الله لغرض خفي.. كان يعتقد أيضًا أن لهذه المهمة وقت محدد حينما ينتهي سيتمكن حينئذ من أن يفهم الحكمة الغامضة التي تكمن وراءها.. هذا الشخص وهو في الأربعين الآن لا يزال مستغربًا  من نفسه، لكونه تمكن من التوصّل لهذه الحقيقة المؤكدة مبكرًا هكذا، ودون مساعدة من أحد.
"في طفولتي / كنت أرثي لكلِّ من ليس أحمد شافعي/ وليست هذه نرجسية/ مهما بدا الأمر/ غير هذا".
كل من لم يفكر في أن الماضي ينبغي أن يكون إعدادًا استشرافيًا مناسبًا للقبض علي مفترق طرق في الأربعين يستحق الرثاء حتي يبدأ في هذا.. ينبغي أن تكون الذاكرة استجابة تمهيدية للحظة المستقبل التي ـ رغم كل شيء ـ ستظل غير متوقعة، والتي سيتم تأمل المعارك من خلالها بنقاء غير مسبوق.. كأن الموت قد تردد طويلا في الإفصاح عن نفسه كما يجب، ثم قال كل شيء دفعة واحدة.
جريدة (أخبار الأدب) ـ 6/3/2017