الأربعاء، 24 أغسطس 2016

ليلة حب

رفع الموظف الجالس وراء المكتب في نهاية شركة (صوت القاهرة) وجهه نحو المرأة التي دخلت عبر الباب الزجاجي المطل على الشارع المزدحم .. لم تترك الباب ليعود وحده إلى الإلتصاق تلقائياً بالباب الآخر الموصد .. ظلت ممسكة بمقبضه المجوّف لتعيد إغلاقه إلى آخره بحرص كأنما تتأكد أنه لا أحد سيدخل وراءها .. عاد إلى الشاشة المنتصبة أمامه ليضع بسهم (الماوس) ورقة (آس) تحوي قلباً أحمر فوق ورقة أخرى تحوي قلبين أحمرين قبل أن يودع (السوليتير) بمعاودة التحقق من مدى اقترابه في إنهاء اللعبة .. كانت تغطي شعرها بإيشارب أزرق، بدا كأنه سماء صغيرة تلتف حول وجهها دون طائر واحد .. كان سمارها باهتاً، زادت لمسات المكياج الخفيفة من كموده، أما جسدها فكان قصيراً، بديناً بثديين كبيرين، وكان لها جبهة عريضة، وحاجبان رفيعان، وعينان يعطي ضيقهما انطباعاً بضعف البصر .. بدت كموظفة حكومية بفستانها البسيط، الذي تتلاحم طولياً داخل قماشه السميك خطوط كبيرة من الأسود والنبيتي، وكان انسجامه مع ملامحها يدعم صلاحيته بالفعل كزي رسمي للعاملات في الدولة .. الموظف الذي نهض من فوق الكرسي، وخرج من وراء المكتب بدأ يتأمل أنفها الأفطس، وخديها الممتلئين بقدر من التهدل، وفمها العريض بشفتيه السمينتين، المطبقتين على تنفس ثقيل .. فكر في أن عمرها ينتمي إلى تلك المسافة الزمنية المبهمة بين أواخر الأربعينيات وبداية الخمسينيات، وأنها ليست جميلة بما يكفي لأن يبتسم في وجهها، وأن يحاول استغلال حديثهما المنتظر للابتعاد تدريجياً عن السبب الذي جاء بها إلى هنا، كي يقربها أكثر من أحلامه .. تحركت خطواتها البطيئة نحو الداخل دون أن تنظر إلى دهشة الموظف التي تتفحص العرق الغزير فوق وجهها الساهم رغم برودة الطقس .. كأنها مشت آلاف الأميال قبل أن تصل إليه .. كانت عيناها تنظران لأعلى، تستكشفان وجوه المطربين والمطربات، وأسماء الشرائط على الأغلفة الراقدة داخل العلب المتراصة فوق الرفوف العريضة، المغلقة بنوافذ زجاجية .. توقفت أمام ما بدا أنه قسم خاص لـ (أم كلثوم) .. بدأت نظرتها تمعن في التركيز، وهي تضع فوق السطح الزجاجي للفاترينة الأمامية الواطئة، التي تفصلها عن الرفوف حقيبة يد جلدية، ذات سواد قاتم، وتحمل زخارفاً ذهبية تشبه السلاسل الضئيلة، التي يكوّن تشابكها أوراقاً لوردة كبيرة بلا ساق .. وضعت أيضاً فوق الفاترينة كيساً أسود كانت تحمله في يدها الأخرى، ويحوي شيئاً تقارب هيئته من الخارج بنية الزجاجة الكبيرة، دون أن تُبعد بصرها عن الشرائط .. نظرت إلى الموظف .. لم تنظر في عينيه، وإنما ظل بصرها يتنقل بتسارع مرتبك بين نقاط متناثرة في وجهه .. كانا وحدهما، ورغم ذلك سألته بصوت خافت جداً، مختنق بالحذر، كأنها تستفسر عن بضاعة محرمة، أو تخشى أن يسمعها كائن غير مرئي:
ـ شريط (ليلة حب) موجود؟
خرجت حروف سؤالها مضغوطة من بين شفتيها .. كأنها تقاوم بمشقة كتماناً طويلاً، وفي نفس الوقت تؤكد قوة الاحتياج.
ـ لحظة واحدة.
أدار الموظف ظهره لعينيها، ثم رفع يده ليفتح إحدى النوافذ الزجاجية .. مر بإصبعه السبابة فوق أسماء الشرائط المتجاورة داخل صف عرضي حتى توقف أمام أحدها فأخرجه من بين أقرانه وأغلق النافذة .. وضع (ليلة حب) أمامها فوق الفاترينة.
ـ تلاتين جنيه.
فتحت الحقيبة الجلدية السوداء فلاحظ الموظف رعشة يديها.. أخرجت تباعاً عملات معدنية فئة الجنيه ونصف الجنيه حتى اكتمل الثمن فوق السطح الزجاجي للفاترينة .. التقط الموظف العملات واحدة تلو الأخرى؛ فبدت أصابعه النحيلة كامتداد لابتسامة عفوية،  مزجت في وجهه بين التهكم والاستياء، ثم تبددت فوراً قبل أن تلحظها المرأة .. على أي حال لم تكن ستنتبه إلي تلك الابتسامة لو ظلت محنطة في وجهه .. وضعت الشريط داخل حقيبتها، وأغلقتها ثم أعادتها إلى كتفها وهي تسحب من فوق الفاترينة الكيس الأسود الذي يحوي شيئاً تقارب هيئته من الخارج بنية الزجاجة الكبيرة .. تحركت نحو الباب الزجاجي بخطوات أسرع من التي دخلت بها، ثم فتحته وخرجت إلى الشارع المزدحم .. هذه المرة تركت الباب ليعود وحده إلى الإلتصاق تلقائياً بالباب الآخر الموصد وهي تبتعد.
راقب الموظف اختفاءها وهو يقول لنفسه أنها مخلوقة أثرية، لازالت تستمع إلى شرائط الكاسيت، وليس لديها (كومبيوتر) بالتأكيد، وأنها لن تستمع إلى أغنياتها المفضلة بواسطته حتى لو امتلكه أحد أبنائها مثلاً .. نفس الحقيقة تنطبق حتماً على الموبايل ـ لو كان لديها واحد أصلاً ـ ويبدو أيضاً أنها أمضت زمناً طويلاً ـ كالأطفال ـ لتدخر العملات المعدنية التي اشترت بها هذا الشريط .. تلك الكلمات الأخيرة قالها لنفسه كنكتة أضحكته قليلاً دون أن تتجسد على ملامحه، ومنحته يقيناً جديداً على تمتعه بحس الدعابة.
آخر ليل ما .. أغلقت المرأة (سكايب) بعد أن تحدثت طويلاً لابنتها التي تعيش خارج المدينة مع زوجها وطفليها .. حكت لها ـ كالعادة ـ عن ابن أخيها الذي يسرق فلوس الدروس الخصوصية، ويُضيّعها على الكافيهات مع أصحابه الفاسدين .. مشروع صناعة الحلويات الصغير الذي بدأته زميلتها في المكتب ليساعدها ـ مع الجمعيات ـ في تجهيز ابنها للزواج .. لامبالاة السكان إزاء تهالك سباكة العمارة التي تحتاج لصيانة عاجلة .. البيجامات الجديدة التي اشترتها لحفيديها .. بائعة السمك تحت البيت التي لا تتعب من الزعيق، والتشاجر مع ذباب وجهها طوال النهار .. النقاش الكوميدي الذي تسمعه يومياً عبر شباك المطبخ بين جارها (ثقيل السمع) وزوجته (خفيفة العقل) أثناء جلوسهما أمام المسلسل التركي .. الجشع المتزايد لسائقي التاكسي .. أنهت المحادثة بالإتفاق على موعد زيارة ابنتها إليها مع الطفلين اللذين أوحشاها .. أطفأت (اللاب) ثم خلعت كل ملابسها، وجلست عارية تماماً فوق كنبة الصالة .. وضعت الشريط في المسجّل بجوارها، وأدارت الأغنية، وظلت تستمع .. كان زوجها قد تناول عشاءه قبل لقائها بإبنتها عبر (سكايب)، ودخل إلى حجرتهما لينام .. هي التي أعدت له الطعام مثل كل يوم، وكانت تعرف لماذا شعر ببعض التعب بعدما انتهى من الأكل، وكانت تعرف أيضاً أنه لن يستيقظ أبداً .. عندما وصلت (أم كلثوم) في الإعادة الثالثة للأغنية إلى (تعال حب العمر كله نخلصه حب الليلة دي .. تعال شوق العمر كله نعيشه م القلب الليلة دي .. ما تخليش أشواقنا لبكره، ما تخليش فرحتنا لبكره .. كأن أول ليلة للحب الليلة دي) نهضت بعريها الكامل، وذهبت إلى المطبخ .. أخذت الكيس الأسود الذي يحوي شيئاً تقارب هيئته من الخارج بنية الزجاجة الكبيرة، ودخلت إلى حجرتهما .. نظرت إلى الولاعة التي تعلو علبة سجائر زوجها فوق الكومودينو بجانب السرير ثم أغلقت الباب بالمفتاح.
ربما سيشاهد موظف شركة (صوت القاهرة) صورة المرأة على أحد المواقع الإخبارية التي يبدأ يومه بتصفحها .. ربما سيهتم بقراءة السطور التي ستظل مختزلة دائماً عن الحريق الذي جعل من حجرة نوم زوجين مطفأة كبيرة، وحوّل جسديهما إلى رماد مختلط .. ربما سيحاول الموظف أن يتذكر أين ومتى رأى هذه المرأة .. لكنه لن يتذكرها .. سيعود إلى الشاشة المنتصبة أمامه، ويضع ورقة (آس) جديدة تحوي قلباً أحمر فوق ورقة أخرى تحوي قلبين أحمرين.