الأحد، 21 أغسطس 2016

إنقاذ التاريخ المُهمل

أكثر من سبب دفعني للتفكير في أن (داليا أصلان) أرادت أن تكتب رواية (المختلط) كأنها تسرد حكاية خيالية شبيهة بالملاحم الشعبية والقصص الأسطورية .. إيقاع الحكي المتلاحق بتنقلاته السريعة، وتركيزه على تعاقب الأحداث أكثر من انشغاله باكتشاف العوالم الداخلية للشخصيات .. التفاصيل الصغيرة، المخبوءة بشكل أو بآخر، التي لا يتم إعطاؤها أهمية إلا بقدر ضرورتها داخل السياق العام، وبحسب أدوارها في تكوين علاقات الواقع الجماعي، والبناء الخارجي للحكاية ..  تداخل الأقدار والمصائر البشرية حيث كل قصة ـ كما في (ألف ليلة وليلة) مثلاً ـ تقودك إلى قصص أخرى، والشخصية تأخذك نحو الاشتباك مع المزيد من الشخصيات .. الأقدار والمصائر المختلفة التي يرسم كل منها الآخر، وينتج عن اختلاطها زمن مستقل، يستبعد من كل فرد ما لم يساهم في تحريك خطواته أو في نسج أحلامه.
لم تستدع (داليا أصلان) ذلك النوع من الغرائبيات اللامعقولة ، أو الأعاجيب غير المألوفة لتكتب روايتها .. لقد استمرت في الحكي فحسب .. تركت القصص التي يمكن استيعابها وقبولها كأحداث ممكنة لتنتج ـ بديهياً ـ غرائبيتها الخاصة .. أعاجيبها التي لا تحتاج لتدخل معجزات خارقة حتى تتحوّل إلى ما يشبه حكاية خيالية .. تركت (داليا أصلان) نبرة (كان ياما كان) لتتكفل بكل شيء .. من هنا تحديداً تولدت حياة تصلح كملحمة شعبية أو قصة أسطورية.
الزمن المستقل في رواية (المختلط) هو ما يمكن أن نطلق عليه (الذهن الخاص للمكان) .. شخصيات هذا الزمن كأنهم مرايا للمكان .. المكان هو بطل هذه الملحمة، سواء بشكل مجازي، أو حتى بالتعريف التقليدي للبطولة، في حين أنه لا يوجد بطل بالمعنى الشائع بين الشخصيات أو لنقل بالخصائص الملحمية السائدة .. المكان ليس (المختلط) وحسب ـ رغم أنه قد يمثل مركزاً حقيقياً وملهماً للسرد ـ إلا أنني أنظر إلى المكان كوفرة من الفضاءات المتابينة، غير المحسومة، التي لا تهيمن طبيعة أي منها على الأخرى .. حضور حسي لا يُختزل في تحديدات عقلية قاطعة، وإنما يعلن عن وجوده المتبدل، ويكشف عن أحواله المتغيرة ويؤكدها بواسطة كل مشهد يتم تشييده داخل فراغاته .. المكان في رواية (المختلط) هو الذي يراقب، ويتذكر، ويوثّق .. المكان هو الذي يكتب سيرة البشر .. هو الذي يخلق الأقدار والمصائر إذن، وما فعلته (داليا أصلان) هو محاولة استنطاقه عبر ذاتها .. محاولة التماهي مع حياده سواء نجح هذا أم لا .. الحياد الذي يضمن الخلود بطريقة أو بأخرى.
هل هناك تفسير أو حكمة ما يمكنها أن تبرر الإيقاع المتلاحق والتنقلات السريعة والتركيز على تعاقب الأحداث؟ .. أفكر في أن السرد داخل رواية (المختلط) يبدو طوال الوقت كأن الموت يطارده .. كأنه يرى في المراكمة المتعجلة لما يشبه الخلاصات الانتقائية للشخصيات والأحداث السبيل الحتمي لمراوغة هذا التهديد .. كأن (داليا أصلان) قد تعمدت أن تجمع كل ما تقدر عليه من الماضي لإنقاذه من الفناء .. إن رواية (المختلط) تكاد تكون محكومة تماماً بما يقارب الهوس العصابي بحشد كافة الكائنات والوقائع، وبمستويات حفر متعددة .. المرور اللاهث بين المراحل الزمنية المتتابعة، والذي يتوقف في بعض الأحيان من أجل الرصد المجهري لما يتطلب ذلك.
لكن الكتابة ليست مجرد توثيق، وإنما ما يعنيه استنطاق المكان هو إضاءة ما يتجاوز الأصول الواقعية المحتملة لحكايات البشر .. ما يمكن أن يتم اعتباره الحقائق الجوهرية المتوارية التي يتعيّن تثبيتها .. ما لم يتمكن المكان من سرده في الحياة.
محاولة التماهي مع حياد المكان يتيح للذات الساردة أن توجد بأساليب مختلفة من خلال شخوصه .. يتيح لها أن تختبىء وأن تعلن عن نفسها، وأن تنحاز لشكل معين من الوجود، وأن تمرر مواقفها من التاريخ الذي يُحكى .. التماهي يعطيها القدرة على الانتشار داخل كل وعي، الأمر الذي سيمكنها من التسلل إلى وعي القارىء نفسه.
يكاد يكون (فهمي) هو الوحيد الذي نجا من كل هذا .. الإيقاع المتلاحق والتنقلات السريعة والتركيز على تعاقب الأحداث .. يكاد أن يكون (فهمي) هو (البطل المضاد) في رواية تخلو من الأبطال التقليديين .. ربما لأنه الشخص الوحيد في الرواية الذي لم يمتلك جذوراً في المكان ولهذا كان يجب لحياته أن تحصل على عمق ما في أرضه .. كان ينبغي أن يتم ترسيخ هوية له، لا تغفل عن أدق التفاصيل .. سيكون منطقياً إذن الشعور بأن مشاهد (فهمي) هي أكثر فقرات الرواية هدوءاً وتمهلاً .. هي اللحظات التي تشهد هيمنة نسبية للتأمل والاستفهام .. كأن (فهمي) هو النقاء المنفصل الذي يفكك كل أصل أو حقيقة أو يقين ليس عن المكان وشخوصه فحسب، وإنما عن الإنسان ووجوده في العالم.