الاثنين، 6 يونيو 2016

جنوب بلا شمال لبوكوفسكي‮:‬ حكايات القاع الثملة

ربما يكون الانطباع الأساسي الذي يطغي بقدرٍ كبير من البداهة أثناء قراءة قصص (تشارلز بوكوفسكي) (1920ـ 1994)، أن صاحب (مكتب البريد)، و(نساء)، و(الحب كلب من الجحيم) يكتب بنفس بالطريقة التي يمكن أن يسرد بواسطتها حكاياته آخر الليل داخل حانة نصف مظلمة لغريب يشاركه الشُرب والضحك، والتواطؤ علي حماقة وشيكة سيمر عنفها عبر جسد امرأة ما .. في مجموعة (جنوب بلا شمال) الصادرة عن (منشورات الجمل)، ترجمة (أماني لازار) لا يكتب (بوكوفسكي) عن الثمالة والشبق والفساد الساحر لـ (قصص الحياة المدفونة)؛ أي أنه لا يستعيد أو يفكر أو يصوّر العالم من مسافة ذاتية فاصلة، بل يكتب وهو سكران، وهائج، ومنتش بالانحطاط .. قصص (بوكوفسكي) لا تقوم علي استرجاع المتعة الكابوسية للماضي، بقدر ما يخلقها التوحد الملعون بين هذه المتعة والجسد الذي تكوّن تاريخه بفضلها .. الاندماج بين اللذة المرعبة للذاكرة، والجسد الناجم عنها، المأخوذ كليا بشهوانيته لحظة الكتابة.
(عندما يعرف زوجان بعضهما جيداً جداً ويتحولان إلي شريكين، فالمشاعر علي الأقل لديها فرصة؛ علي سبيل المثال لنقل إني أعجبت بزوجة مايك، وراقبت مشيتها في الغرفة مدة أشهر، أحب حركاتها التي تجعلني فضولياً، وأتساءل: ماذا يجري مع هذه الحركات؟ رأيتها غضبي وسكري وهادئة. وعندئذ المقايضة، أنت في غرفة النوم معها، أخيراً تعرفها، هناك فرصة لشيء ما حقيقي، بالطبع، مايك مع زوجتك في الغرفة الأخري، حظاً سعيداً يا مايك، أتمني أن تكون عاشقاً جيداً مثلي).
> > >
تتشابه كتابة الثمالة مع الحكي الشفاهي السكران في خاصية جوهرية وهي التأكيد الظاهري علي أن السارد ليس في احتياج لانتقاء ما يتأمله، أو لامتلاك المعني أو الغرض المعرفي الذي تتضمنه بنية القص التي يُشيدها، أو لصياغة الرموز والعلامات التي تنظم الحركة الدلالية داخل السياقات المختلفة للحكي .. تبدو الخطوات السردية المعلنة لـ (تشارلز بوكوفسكي) كأن الثمالة تكفيها وحسب .. الشبق الذي سيتكفل بتوثيق تلك القصص المدفونة؛ فربما يكون هذا التوثيق في حد ذاته هو المتعة الجمالية القصوي التي لا تتطلب ضرورة إضافية .. الثرثرة الفاضحة للفساد الساحر.
(أخيراً، خرجت أول ثلاث أو أربع متعريات ثانية، كان لكل منا متعريته المفضلة ووقعنا في الحب؛ اختار بالدي فتاة نحيلة فرنسية مصابة بالربو لها تغضنات داكنة تحت عينيها، أعجب جيمي بالمرأة النمر "النمرة للدقة"، والذي لفت انتباهه إليها أن نهديها أكبر من نهود الأخريات قطعاً، أما متعريتي فكانت روزالي. كانت لروزالي مؤخرة عريضة تهزها وتغني أغاني مسلية قليلاً، وبينما تمشي وتتعري تتحدث إلي نفسها وتقهقه، كانت الوحيدة التي تستمتع بعملها، أحببت روزالي وفكرت أحياناً بالكتابة إليها وإخبارها عن مدي عظمتها لكن لسبب ما لم أقدم علي ذلك).
إن ما يبدو عدم احتياج لانتقاء ما يتم تأمله هو إثبات لهيمنة الهذيان في الواقع؛ حيث إن كافة مشاهد العالم لا تنتظر عيني سكران حتي تحصل علي جنونها، بل إنها فعلياً ودون استثناء لا تنقصها الغرابة القاسية التي تعطي الهائج الذي يعيشها الانحطاط اللازم للانتشاء .. الهذيان هو المعني إذن، أو الغرض المعرفي لسرد (بوكوفسكي) .. الجنون هو الذي يصوغ الرموز والعلامات مثلما تنظم الغرابة القاسية الحركة الدلالية داخل السياقات المختلفة للحكي.
("هيا قولي لي إنني عظيم" .. "حسناً، أنت عظيم" .. "حسناً، هذا يروقني أكثر"، مشي نحوها وقبلها مجدداً. "أشعر بارتياح كبير، الملاكمة عمل فني، إنها حقا كذلك، تحتاج إلي الشجاعة كي تكون فناناً عظيماً وأيضاً لتكون ملاكماً عظيماً" .. "حسناً يا جاك" .. "حسناً يا جاك، هل هذا كل ما بمقدورك قوله؟ كانت باتي تسعد دائماً عندما أفوز، كنا نُسرّ طوال الليل، ألا يمكنك أن تشاركيني عندما أفعل شيئاً جيداً؟ اللعنة، هل تحبيني أم أنك تحبين الخاسرين من أنصاف المواهب؟). 
يمكن ملاحظة الآثار الشكلية للثمالة في قصص (جنوب بلا شمال) والتي تتطابق بشكل أو بآخر ـ كما سبق وأشرت ـ مع الأداء الشفاهي المتخيل للسرد .. لعل الأثر الأبرز هو الإيقاع السريع للحكي، الذي يشبه التلاحق غير المرتب للقصص التي يمكن أن يرويها (بوكوفسكي) بلسانه عن حياته الخاصة .. لكن هذا الإيقاع ليس مجرد تكنيك أو آلية كتابة وإنما طبيعة أساسية للتوثيق .. يمنح هذا الإيقاع السريع الشعور بأن التوثيق السردي للعالم مؤسس علي غضب ما .. علي نوع من الانتقام .. أن الحكي بهذه الكيفية الثملة هو أكثر ما تتطلبه قصص الحياة المدفونة لو أرادت أن توجد حقاً .. يجب التفكير إذن في أن كافة التوظيفات اللغوية داخل المجموعة تتم لصالح التوثيق: المعاني والرموز والدلالات .. ليس عليك أن تتخيل أو تعرف، بل ينبغي أن تلعب بالرسائل التي يتم تمريرها إليك لتكتشف هذيانك الشخصي، ولتعيد كتابة هذه الرسائل، أي تخلقها من جديد.
(شرع الأمريكي سليم البنية في الكلام. عرفت أنه الفتي السمين الذي جلس في الصف الأول في فصل الكتابة المسرحية، لم أثق قط بهذا النوع من البشر؛ وضيع، وضيع تماماً، بدأ: "يجب إيقاف الخطر الشيوعي، لقد اجتمعنا هنا كي نتخذ خطوات بهذا الاتجاه، سوف نتخذ خطوات قانونية وربما خطوات غير قانونية لفعل هذا"، لا أتذكر الكثير من البقية، لم أهتم بالخطر الشيوعي ولا بالخطر النازي. أردت أن أثمل وأضاجع، أردت وجبة جيدة، أردت أن أغني علي كأس بيرة في حانة قذرة وأدخن سيجاراً. لم أكن واعياً. كنت ساذجاً، كنت أداة).
> > >
من ضمن الآثار الشكلية الأخري للثمالة هي أن قصص (تشارلز بوكوفسكي) تبدأ متخلية عن ذلك اليقين بأنها تبدأ بالفعل ..  تبدو بدايات القصص كأنها استكمال لحديث سابق .. كأنها مواصلة لحوار لم يكن قد اكتمل في لحظة سابقة .. ليست البدايات فقط وإنما النهايات أيضاً .. تنتهي قصص (بوكوفسكي) دون إدراك بأنها تنتهي حقاً .. تنتهي فجأة دون مفارقة أو صدمة أو إضاءة خدعة ما .. تنتهي كأن شيئاً لم يكن، أو علي نحو أدق كأن (بوكوفسكي) يحرضك علي ألا تأخذ حكاياته بنوع من الانتباه الجاد، المرتبط بسلطة شائعة كـ (الإلهام) مثلاً، وإنما بجنون مماثل .. كأنه يخبرك بأنه علي الرغم مما في هذه القصص من غرابة قاسية إلا أنها لا تعدو أكثر من أن تكون فقرات متناثرة من الحياة التقليدية التي يمكن أن تعادل شراستها المألوفة أي شراسة أخري .. أما ما يمكن أن يعد من أكثر السمات الفاتنة في مجموعة (جنوب بلا شمال)، والتي تتوافق دون شك مع الثمالة هو الإحساس بأن كل قصة تستطيع أن تعبر داخل قصة أخري دون إحداث خلل .. يمكن لأي مشهد أو حدث داخل أي قصة أن يقطع مشاهد أو أحداث من قصة أخري قبل أن تسترد مجراها الأصلي دون أن يسبب هذا فجوة أو ارتباكاً.
(عادت إلي السرير معي، وضعت المجلة جانباً، سألتني: "هل تظن أن بإمكاننا أن نفعلها معاً؟". "ماذا تقصدين؟". "أقصد، هل تظن أن بإمكاننا أن نفعلها معاً في أي حين؟". "لا أعرف، هذا ممكن، البداية دائماً هي الأسهل". بعدئذ تناهت إلينا صرخة من الصالون "أو...أوه" قالت داون، قفزت راكضة خارج الغرفة، تبعتها وعندما وصلت إلي هناك كانت تمسك بجورج بين يديها. "أوه، يا إلهي!". "ما الذي حدث؟". "آنا فعلتها به". "ما الذي فعلته؟". "لقد خصته، جورج مخصي").
> > >
في إحدي قصص المجموعة يهزم الراوي (هنري تشيناسكي) (إرنست همنجواي) في مباراة ملاكمة .. كأن (بوكوفسكي) يثبّت تفوقاً يؤمن به علي (همنجواي) يتجاوز مباراة الملاكمة نحو التقنيات الكتابية المشتركة: نقاء اللغة .. حوار المخمورين .. جبل الجليد .. ستار اللامبالاة .. الحياد العاطفي .. كأن (بوكوفسكي) يخبر (همنجواي) بواسطة اللكمات الفتاكة أن نقاء اللغة في قصص (جنوب بلا شمال) أعظم شراً مما في (قطة في المطر) مثلاً، وأن حوار المخمورين في هذه المجموعة أشد مكراً مما في (تلال مثل الفيلة البيضاء)، وأنه لا يوجد ستار شيطاني من اللامبالاة يتخطي ما في هذه الحكايات حتي لو كان (رجل عجوز علي الجسر) .. كأن (بوكوفسكي) يقول لـ (همنجواي) أنه خالق الجحيم الذي تأتي منه كل جبال الجليد.
(تراجعت إلي الخلف وسقط السيد إرنست همنجواي علي وجهه مغميّ عليه. فككت قفازاتي بأسناني وخلعتهم، ثم قفزت من الحلبة وذهبت إلي غرفة ملابسي، أعني غرفة ملابس هيمنجواي).
تبدو مجموعة (جنوب بلا شمال) كأنها يوميات هائلة عن اللامنطق الذي يتجه دائماً لأسفل .. نحو القاع .. دون صعود .. الجوهر الذي يتم الاحتفاء به دون انشغال بإثبات فكرة أو طرح سؤال أو الإيحاء بغاية .. لاشيء سوي هذا العمل الشاق: أن تستمر في التداعي الحر الذي تقوده الثمالة .. التدفق المفتوح علي الملاحظات الهازئة، والتعليقات التي لا يمكن أن يقف عائق أمام سخريتها .. هذا التدافع الذي يُظهر طوال الوقت أنه لا يمكن أن ينتج إلا من روح الصلبة لديها من الجبروت ما يجعلها تعترف وتنتهك وتتهكم وتلهو وتُدنّس كأنها تتنفس .. لكنها الروح التي لا تكمن صلابتها ربما إلا في ذلك التصديق الذي يبدو طافحاً في المجموعة بأنك لابد أن تصل بجسدك إلي الحافة حيث النشوة في صورتها الضارية، وأنك لابد أن تكتب حتي تؤجل سقوطك منها.
أخبار الأدب
04/06/2016