الأحد، 30 أغسطس 2015

الكولاج اللازمني

ربما كانت لقصة (رجل عجوز على الجسر) حكاية أصلية حدثت في الواقع بنفس الترتيب الذي انتظم في القصة: أثناء أداء (إرنست همنجواي) لعمله كمراسل حربي لـ (اتحاد صحف أمريكا الشمالية) في الحرب الأسبانية، وبينما كان يتابع دبابات الجمهوريين ومشاتهم كجزء من مهمته في الإعداد لفيلم (الأرض الاسبانية ) بالاشتراك مع (جون دوس باسوس) قابل العجوز الذي كان يعتني بالحيوانات عند الجسر، وأجبر على تركها بسبب القصف المدفعي، ثم دار بينهما الحوار الذي انتهى بجلوس العجوز فوق التراب دون أن يعرف إلى أين يذهب، حيث حقيقة كون القطط تستطيع العناية بنفسها هي كل ما تبقى عنده من حظ حسن.
لكن ماذا لو أن (همنجواي) في الواقع قد رأى العجوز المتعب جالساً فقط في هذا المكان، ولم يحدث بينهما أي حوار؟ .. ماذا لو أن حديثاً دار بينهما لم يأت فيه أي ذكر للحيوانات؟ .. ماذا لو لم يكن العجوز جالساً أصلاً، ولم يكن بمفرده بل كان يعبر الجسر مثقلاً بآلامه وسط عائلته؟ .. هذه الفرضيات تقودنا لتصور أن (همنجواي) ربما رصد رعباً ممتزجاً بالحسرة في عيني العجوز وهو يغادر بلدته، وأن هذه الملاحظة هي ما دفعته لتضمين المشاهد اللائقة المختزنة في الماضي داخل تلك الغنيمة بعد ابقاء العجوز وحيداً أو عزله ذهنياً عن عائلته .. ربما رأى (همنجواي) عنزة في مشهد آخر، وشاهد أيضاً حماماً يطير في وقت سابق لهذه اللحظة، فضلاً عن كونه مغرماً بالقطط، وهذا ما أدى به لتحويل العجوز إلى راعٍ للحيوانات .. قد يكون وجود العجوز في هذا المكان، وبهذه الحالة حافزاً بديهياً لخيال (همنجواي) لاستدعاء تلك الخامات البصرية من الذاكرة، وزرعها بشكل تلقائي داخل الفراغات المختبئة لهذه اللقطة الملائمة، والتي عثر عليها عند رؤيته للعجوز.
الآن دعونا نفكر: لو أراد (همنجواي) للقصة أن تتخذ نسقاً مضاداً لما يبدو أنه نوع من العاطفة المألوفة الكامنة في التواجه المتوقع بين الضعف والمسالمة (العجوز وحيواناته التي أجبر على التخلي عنها) ووحشية الحرب؛ أي مشهد في حياته كان بالإمكان أن يستخرجه ليشيّد التحامه مع صورة العجوز مفارقة صادمة، تتخطى تأثيرات التناغم الشكلي، ويعتمد توترها على الغياب الظاهري للمنطق؟ .. قد يمثل انتحار والد (همنجواي) إجابة ملهمة لهذا التساؤل خاصة لو تم استحضاره كمادة شبحية مغلفة بهواجس (همنجواي) عن مجابهة الموت وترويضه وقبوله كجزء من دورة الحياة .. الصراع بين الخجل المرير الذي كان يشعر به إزاء انتحار أبيه، ومصافحة الموت بالاندفاع نحو أكثر احتمالاته قوة، والتوحد مع كابوس الإنهاء الحتمي للحياة بطريقة ما كآخر ما يمكن للأسطورة الشخصية أن تقدمه كدليل على الكرامة أمام حصانة الفناء .. يمكن باتباع هذا المسار أن يتكلم العجوز في قصة (رجل عجوز على الجسر) على النحو التالي:
(كنت أنتظر أبي حتى يأتي، ويطلق النار على جبهتي .. لقد بقيت في البلدة منتظراً أن يحضر ومعه مسدسه المحتفظ به من أسلحة الحرب الأهلية .. الآن أنا مجبر على ترك المدينة قبل وصوله .. لا أعرف ماذا سيحدث لو أتى ولم يجدني .. الكابتن طلب مني المغادرة بسبب القصف .. ليس لدي موقف سياسي، لكنني أتساءل كيف سيعثر عليّ أبي لو مشيت في هذا الطريق حيث تمضي الشاحنات .. أنا فقط كنت أنتظر أبي حتى يطلق النار على جبهتي، ومع ذلك ربما يستطيع الوصول إليّ رغم كل شيء).
هل عجوز مثله لازال أبوه على قيد الحياة أم أنه يتوهم ذلك؟ .. ما معنى أن ينتظره حتى يطلق النار على جبهته؟ .. ما علاقة هذا بالحرب الأسبانية؟ .. استفهامات متناسلة تتدافع من غرابة الحالة التي تمتلك منطقها الخاص عند (همنجواي)، ولديها من المبررات ما يجعل من عجائبيتها حقلاً مغرياً للخطو داخل اشتباكاته المربكة .. هكذا كان يمكن لـ (همنجواي) توظيف عنف هذا الأثر الواقعي من حياته الشخصية في ممارسة الطيش القصصي لو أراد لقصة (رجل عجوز على الجسر) أن تتخلى عن الرمزية الشائعة (الحرب كاختزال للعالم الذي يسحق الضعفاء دون ذنب، ويجبرهم على التخلي عما كانوا يعتنون به).
الآن .. لو أراد (همنجواي) للقصة أن تتخذ نسقاً مضاداً آخر، ولكنه هذه المرة متسماً بالروح الهزلية؛ أي مشهد في حياته كان بالإمكان أن يستخرجه ليشيّد التحامه مع صورة العجوز مفارقة صادمة، كوميدية، محكومة بالرغبة في حفر بصمة هازئة .. لنفكر جيداً في هذا المشهد عن روايته (حب في الظهيرة): (انفجر "همنجواي" غاضباً بسبب العروض التي نشرت عن روايته، وعندما قال "ايستمان" أن أسلوب "همنجواي" الأدبي كان مثل "شعر زائف على الصدر" قال "همنجواي" أنه خنزير وخائن وعاجز ويغار من رجل حقيقي يستطيع تأديب أي واحد منهم وأن يؤلف أيضاً، وقال أنه سيسحق "ايستمان" يوماً ما. وسنحت له الفرصة أخيراً في مكتب "ماكس بيركنز" حيث وجد "ماكس" يتشاور مع رئيس التحرير بشأن كتابه الجديد، ورضى "همنجواي" في البداية أن يقارن صدره كث الشعر بصدر "ايستمان" الخالي من الشعر).
على أساس هذه الذكرى لدى (همنجواي) كان يمكن أن يتكلم العجوز في قصة (رجل عجوز على الجسر) على النحو التالي:
(كنت انتظر أحد الخنازير الذي أرسل لي كي يتحداني بأن شعر صدره أغزر من شعر صدري .. لقد بقيت في البلدة منتظراً أن يحضر لأهزمه في هذا الرهان .. الآن أنا مجبر على ترك المدينة قبل وصوله .. بالتأكيد سيعتقد أنني هربت من مواجهته لو أتى ولم يجدني .. الكابتن طلب مني المغادرة بسبب القصف .. ليس لدي موقف سياسي، لكنني أتساءل كيف يمكنني مقابلة هذا العاجز وتأديبه لو مشيت في هذا الطريق حيث تمضي الشاحنات .. أنا فقط كنت أنتظر أحد الخنازير كي أثبت له أن شعر صدري أغزر من شعر صدره، ومع ذلك ربما ينجح أي منا في العثور على الآخر رغم كل شيء). 
هل يُعقل أن تنحصر ضروة وجود العجوز بالبلدة في انتظار شخص أرسل له تحدياً على غزارة شعر الصدر؟ وأن تقتصر حسرته لمغادرة المدينة على فشل عقد المواجهة والفوز بالرهان؟ .. أي بشر يتنافسون في هذا الأمر؟ .. كيف يمكن التفكير والانشغال بهذا النوع من التحديات أثناء الحرب؟ .. تساؤلات متصاعدة، تحتدم من جنون الموقف الذي لا تعوزه المعقولية عند (همنجواي)، ولديه من التعليلات ما يجعل من هذيانه فضاءً داعياً للتورط في التباساته المتهكمة .. هكذا كان يمكن لـ (همنجواي) توظيف فكاهة هذه الإشارة من عالمه الخاص في مزاولة النزق القصصي لو أراد لقصة (رجل عجوز على الجسر) أن تكون دعابة تسخر من الحرب ومن البشر ومن نفسه.
تبدو الذاكرة أشبه بالكولاج الهائل غير المؤطر، المهيأ والمحرض دائماً لتوثيق نصوصه المتوالدة : أشلاء وشظايا لا تخضع العلاقات فيما بينها لنظام محدد، إذ يمكن لمشهد ما أن يخلق في أي لحظة وبكيفية مبهمة ارتباطه بمشهد آخر مستقر في الماضي .. ليست هناك شروط صارمة تلزم هذه الصلات بالانتماء إلى طبيعة معينة، أوتقديم أنماط جاهزة من التفسيرات حول إرادتها .. لا يوجد قانون بإمكانه السيطرة على استراتيجية الدمج بين مشاهد مختلفة زمنياً لتكوين مشهد متحرر من سلطة الزمن، ولذلك إذا مارست صورة ما بشكل مفاجىء هذا الاستدعاء العفوي لصورة أخرى في الذاكرة فتمسّك بالصورة المرئية أكثر من تمسكك بالأخرى التي استدعتها .. استغل هذه الفرصة الثمينة في التنقيب والبحث داخل رصيدك من التجارب السابقة عن مشاهد أخرى استرشاداً بالمشهد المنتزع من الذاكرة، سواء في سياقاته المتماثلة أو المناقضة .. اعقد مقارنات بين جميع الصور المكتشفة بنية الفرز واختبار الأغراض المختلفة لتوافقاتها مع الصورة الأساسية، وكذلك التغييرات والتعديلات الممكنة في التفاصيل دون قلق بحتمية توفير مسوغات يمكن للجميع استيعابها أو أسانيد منطقية للتفاهمات المنجزة بين الصور المتباينة .. أعد ترتيب قصاصات الذاكرة وفقاً لاستجاباتك غير المتوقعة مهما كانت غامضة، ومهما بدت عسيرة الترويض كمعنى مدرك كلياً، ومتخماً بالثقة في روابطه الآمنة .. أنت أولاً وأخيراً تخلق الكولاج اللازمني الذي يخصك.

* * *
المعلومات الخاصة بسيرة (همنجواي) في هذا المقال تستند إلى ما جاء في كتاب (إرنست همنجواي) للروائي والناقد البريطاني (انتوني بيرجس) الصادر عن دار الحرية للطباعة ـ بغداد 1989، ترجمة: سمير عبد الرحيم الجلبي.

موقع (قل)
http://qoll.net/%D9%85%D9%83%D8%A7%D8%A6%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B5-1-%D8%A7%D9%84%D9%83%D9%88%D9%84%D8%A7%D8%AC-%D8%A7%D9%84%D9%84%D8%A7%D8%B2%D9%85%D9%86%D9%8A/