الخميس، 27 أغسطس 2015

مكان جيّد لسلحفاة محنطة


بعيدًا عن جدل المركزية الثقافية للقاهرة، الذي لن ينتهي قريبًا لأسباب عديدة، فإن هناك عشرات المبدعين ممن يقيمون بعيدًا عن ضجيج العاصمة ومعاركها واستطاعوا رغم ذلك – أو بسبب ذلك – إسماع أصواتهم وفرض حضورهم الفني والثقافي، دون أن يلعبوا دور الشهداء المضطهدين أو العباقرة المغبونين.
ممدوح رزق أحد هؤلاء اللاعبين المهرة، الذي لا يخشى أن يلقي بنفسه في غمار الكتابة بصنوفها وتجلياتها، مواصلًا إنتاجه في نشاطٍ وهمة يثيران الحسد، فكتب قصائد النثر والروايات وسيناريوهات الأفلام القصيرة وقصص الأطفال والكثير من الدراسات البعيدة حتى عن مجال الأدب، إلى جانب نصوص حُرة من أي تصنيف، لكني أعتقد أن ميله الأساسي وعشقه الأول يظل للقصة القصيرة، ربما لأنه يكتب حاليًا سلسلة مقالات ثاقبة النظرة عن بعض كلاسيكيات القصة عند روّادها الأوائل، وربما لأن طبيعته الفنية أقرب إلى القنص منها إلى البناء، وإلى تكثيف الرؤية منها إلى الاستطراد. تتجلى أغلب ميوله التقنية وسمات قلمه في مجموعته (مكان جيد لسلحفاة محنطة) التي صدرت عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، تلك السلحفاة المخبأة جيدًا فلن يستطيع القارئ العثور على أي أثرٍ لها في صفحات الكتاب.
يتسع مفهوم السرد هنا ليقترب من الكتابة بشمولها، واحتمالاتها المراوغة بمعزل عن ضرورات السرد ومقاصد القصة بصورتها المتعارف عليها. الكتابة التي تسمح بالتأمل والاستيهام الباطني وتتبع أفكار الذات وتحليلها، بالاعتماد أحيانًا على أقل قدر ممكن من الوقائع ومفردات الحياة، فليس ثمة افتتان بالواقع هنا بل كفر به يشارف العدمية، كفر مدعوم بألعاب ذهنية بارعة وروح خفيفة مرحة، ليس ثمة ركض وراء الحبك الدرامي، حتى عند توفر إمكانياته في بعض القصص، بقدر ما نلحظ اعتصار الدراما لصالح الوعي وتقطيره في نظرة شديدة الخصوصية. حتى في أقرب قصص الكتاب إلى الشكل التقليدي، المعتمدة على الموقف السريع والمفارقة الواضحة في سطورها الأخيرة، قصة (ثغرات الخلود) مثلًا، يأبى الكاتب الاستسلام التام لهذا الشكل ولا ينهي قصته إلّا بعد تسريب مُعضلة صغيرة جديرة بإرباك القارئ ودفعه إلى إعادة القراءة.
ثمة حضور للواقع الافتراضي في أكثر من قصة، ليس بوصفه حِلية أو موضة ما بعد حداثية، بقدر ما يكون قرينًا وبديًلا لما يُسمى بالواقع الحقيقي، يتبادلان الأماكن والأدوار كما تتبدل وجوه الناس في القصة الأولى، (فيس بوك). تمامًا مثل الدور التي تلعبه الأحلام المتداخلة ورؤاها العجيبة في بعض النصوص، لذلك كان طبيعيًا للغاية أن يكتب رزق معارضة لقصة بورخيس (الآخر)، وهو المأخوذ بألعاب الزمن الغامضة ومواقعنا منه. إلى جانب كل تلك الإشارات السريعة غير الوافية، يبقى فعل الكتابة حاضرًا بصورٍ متنوعة، بداية من أمثولة الرجل الذي كتب قصة قصيرة عن ماضيه البعيد فاعتبره الناس ساحرًا وأحرقوه حيًا، وليس انتهاء بإشارات واضحة إلى أعمال سابقة للكاتب مثل فيلمه القصير (إخفاء العالم)، حين يعطي صوتًا لفراش الأب الذي تم تصوير بعض مشاهد الفيلم عليه، هنا تختلط المرجعيات تمامًا، فلا يعود التفريق سهلًا بين أفعال الفن والخيال وبين دقّات الواقع والزمن، هنا أيضًا تكون أفضل حالات ممدوح زرق قاصًا، إذ كلّما ابتعد عن العاطفية السهلة والمفارقات الواضحة كما في بعض الأقاصيص الواردة في نهاية الكتاب، استطاع أن يعقّد نسيجه ويكثف رؤاه في جدائل محفزة على التفكير واللعب الحر، كما في أغلب قصص هذه المجموعة المتميزة. وحتى حين تطول بعض نصوصه إلى بضع صفحات لا تفتقر إلى تلك الكثافة والروح المحلقة، ويبقى صادقًا عليها وصفه لإحدى اللحظات في قصة (رسم الهواء): "كانت ومضة خاطفة جدًا. اختطاف عابر للنَفْس خارج الحاضر ثم استردادها في غمضة عين."



محمد عبد النبي
جريدة (القاهرة)
18 أغسطس 2015