(1)
لا تنقاد كلمة “معجزة”، خصوصًا في سياقها الغيبي المحكوم بالرجاء واليأس، إلا نحو تلك الرعشة الشاحبة، الكامنة في عمق “الإيمان” .. الجرح الطفولي الذي أخفاه اليقين، وبدونه لن يمكن “للمعجزة” ـ وإن تحققت صورتها فجأة كقناع مقدس ـ أن تقوّض “سرابها اللغوي” في لحظة مؤجلة .. أن تحصد نشوة موتها .. كأن هذا الجرح المعاند ليس إلا يقينًا أصليًا مناقضًا، أكثر ولاءً وتنكيلًا من أي سر آخر، يمور في جوف شيطان أعزل.
(2)
يتأمل المرء “الموت” فقط من كون “الحياة” في ذاتها معضلة بلا حل؛ على الأقل لا تضع حدًا لنهايتها! .. الفناء ـ بالضرورة ـ ذلك الشبح الذي شكّلت بداهته تأمل الموت .. العطب المستقر في خبيئة كل وعد حاسم ومثالي لما بعد الموت .. يتأمل المرء “الموت” فقط من كونه وحيدًا؛ لا يدفع أحد غيره ثمن محاولاته الفاشلة لسرقة “الخلود” .. وحده تتبادله المصائد، حزنه غير قابل للقسمة، وعمائه لا يتسع لضرير آخر .. لكنها ليست محاولات فاشلة وحسب .. هي تمارين مهلكة على التحلي الكامل بالشجاعة .. الإدراك المُرجأ الذي يتجاوز تمضية الوقت قسرًا تحت مُسمّى “العيش” .. إدراك أن الأمر لا يتعلق بـ “الخلود” بقدر التحديق إلى “اللص الكوني” الذي سرق ألوهتك .. من يتعيّن عليه حقًا أن يدفع ثمن فنائك، وكيف ستجعله يقوم بذلك.
(3)
في نظرتك للمرآة تكمن كل السماوات التي لم تنجح عيون البشر كافة في إسقاطها .. تنطوي كل الليالي التي بقي صمتها الأزلي حارسًا للحكمة وهي تزيّن الأرض بأشلاء الولادة .. لكنها مع ذلك لابد أن تكون نظرتك وحدك .. اللحظة المصلوبة في العدم، التي لا تخص أحدًا غيرك .. ليس لأن ما تراه هو جثتك فحسب، بل لأن هذا الخرس الذي يعتني بها يواري كلماتك التي استعملتها في إسقاط السماوات .. في التمثيل بطمأنينة الليالي .. الكلمات التي راوغت مرآتك لنتزع بواسطتها كل الوجوه التي شكلت ملامحك وتخلق من هزالها وجه انتقامك من الحياة والموت .. وجه غير مرئي، ولا يطابق ملامح رجيم آخر.
(4)
لا تسأل الآخرين سؤالُا لا تعرف إجابته .. ذلك لأن إجاباتهم ـ وإن بدت صحيحة ـ فهي لا تعدو جذورًا للزمن .. إجاباتك وحدها على ما لا تعلمه، ما لا تستوعبه، وما لا تصدقه هي ما يقتلع تلك الجذور ليشيّد بها متاهة عقابية للزمن .. إجابتك ـ بالطبع ـ لا يجب أن تكون إجابة، وإنما نضالًا ضد “الصواب” الذي يبرر العالم .. كفاح يسبق الوقت ويسابقه .. كأنها ذخيرة عصيان لزم عليها أن تخلق بأثر رجعي تفاصيل الأورجازم الأول.
(5)
جسدك ليس إلا حجة دامغة لكي تحدّق إلى التعاسة .. ربما ستفهم هذه الوظيفة بالغة الأهمية للجسد متأخرًا، لكنك ستدرك أيضًا أنه لا شيء يحدث مبكرًا ولا بعد فوات الأوان .. هناك شيء يحدث فقط، قد يتمادى في الإيلام حين يخبرك أحدهم فجأة أنه يحب الحياة ـ رغم ما هي عليه ـ ولا يريد أن يموت “ما سيحدث حتمًا” .. قد يتمادى هذا الشيء في الإيلام حين يبتسم أحدهم وهو يحدّثك عن فُحش الأمل .. ما أهمية أن يكون للجسد هذه الوظيفة؟ .. التحديق إلى التعاسة ثأر من يطارد أصلها .. من لا تخدعه أكباش فداء الغيب .. من قرر ألا يكون عابرًا فحسب، بل أن يرد مهانة وجوده بأحسن منها .. ما يشكّل التحديق إلى التعاسة: الذهول .. الرجفة .. الخوف؛ يصبح ـ رفقة موسيقى التهكم الملائِمة ـ قنصًا للصنم الذي يجهله الجميع.
(6)
لو أتاح لك الحلم أن تُكمِم كل الأفواه، وتُقيِّد كل الأيدي والأقدام، أي أن تبطل عدوانية “الآخر” فقط لكي تتمكن ـ للمرة الأولى دون تهديد ـ أن تخبره بأسرار الأذى جميعها الذي أصابك به، وعن اللحظات كافة التي أهدرتها من عمرك وكنت مرغمًا خلالها على رفقته لمجرد أن الوحدة وقتئذ كانت أصعب مما يمكنك تحمّله؛ لو أتاح لك الحلم ذلك فإنه لن يُجدي نفعًا، بالعكس، سيكون الأمر أكثر قسوة حين تبصر عينيه تضحكان في صمت .. نعم؛ ستترك عينيه مفتوحتين وأنت تعمل على تعطيل “إنسانيته” مؤقتًا، لأنك ـ بالطبع ـ ستريد أن ترى أثر ما تحكيه في نظرة الدوبلير .. لا مفر إذن ـ لو أتاح لك الحلم ذلك ـ من أن تعصب عينيه أولًا، ولتوقن أكثر بأن أسرار الأذى واللحظات المهدرة ليست إلا بصمات قاتل لن يُعثر عليه أبدًا.
(7)
ربما الأشد مرارة من اليأس هو عدم الثقة في أن ما تستعمله من صمت لم يجرّبه متسول آخر .. تريد صمتًا لم يخطر في ذهن العالم من قبل ومن ثمّ لا يُفضي إلى هزيمة كلاسيكية .. رغم أنك تعلم جيدًا بأن عظامك المحترقة هي من ترثي الشتاء .. أن النجوم الصغيرة التي انطفأت في قلبك هي من تحوم حول قبر البرودة القديمة .. لماذا تظن دائمًا أن اللغة ـ مهما فعلت ـ لا تفرّق بين الشرفات التي تبددت رائحة المطر من فوق أبوابها المغلقة؟ .. لأن كلماتك ـ كالعادة ـ لم تنقذ أولئك الذين كانت الغفلة تطوي أجسادهم وراء تلك الشرفات .. لم تعوّض الرجاء الذي كان يثقل ابتساماتهم قبل أن تخطفها “الرحمة”! .. لكن ذلك تحديدًا ما يجعلها مأساتك أنت .. لأنك لا تنتظر شيئًا من اللغة .. تسخر من توقعاتها .. الانتقام الذي لا يتكرر بنفس الطريقة.
اللوحة: سقوط إبليس – جوستاف دوريه