الاثنين، 8 مايو 2023

البوسطة


 موعود بعيونِك أنا موعود

وشو قطعت كرمالُن ضَيَع وجرود

إنتِ عيونِك سود

ومَنّك عارفة شو بيعملوا فيّي العيون السّود.

حينما شاهد “البوسطة” صغيرًا للمرة الأولى على شاشة التليفزيون وجد نفسه مسحورًا بكل ما يكوّن تلك الدقائق القليلة من روعة خيالية .. لكنه مع قوة افتتانه بصوت “فيروز”، وبالأغنية ونغماتها واستعراضها؛ لم يكن يعرف لماذا كان خائفًا في نفس الوقت من الرجل ذي الوجه الصارم والشارب الثقيل الذي يلعب دور السائق، والواقف عند طرف المسرح .. ربما لأنه ـ بالرغم من أداءاته الواضحة ـ لم يكن يعرف في البداية أنه السائق .. كان بالنسبة له رجلًا غامضًا، أقرب لشبح منفصل بحركاته المريبة عن الكرنفال الحميمي الذي يحدث خلفه .. لكن حتى بعدما كبر الطفل، وعرف أن هذا الرجل هو قائد “البوسطة”؛ ظل خائفًا منه، وبصورة أكثر حسمًا .. ربما لأنه كان يرى أن ثمة شيئًا سيئًا يكمن في حركاته التقليدية .. نيّة شريرة .. لماذا يمكن أن يشعر شخص ما منذ صغره بهذا الإحساس ـ الذي تطوّر إلى غضب ـ تجاه السائق في أغنية “البوسطة” كلما شاهدها؟ .. أي شيء تجذر وتربى داخل هذا الشخص وأرغم عينيه على اتخاذ تلك النظرة؟

عَ هدير البوسطة الْـ كانت ناقلتنا

من ضيعة حملايا على ضيعة تنّورين

تذكّرتك يا عليا، وتذكّرت عيونك

ويخرب بيت عيونك يا عليا شو حلوين.

منذ طفولته وحتى الآن ينتابه شعور مبهم كلما دخل مكانًا جديدًا لم يسبق له المرور به من قبل، وهو أن ذلك المكان مركز العالم .. مهما كان ذلك المكان .. طالما أنه يخطو فيه للمرة الأولى فهذا يكفيه لتصوّر أن الحياة بأكملها قد حدثت هناك من دونه .. وقعت كل التدابير المكشوفة للدنيا وانتهت في غيابه ثم انسحبت تاركة محض بصمات وآثار ملغزة .. ليس هذا فحسب .. يعتقد أيضًا أن القدر قد ساق قدميه عمدًا إلى ذلك المكان لكي يكابد الشقاء الباطني الناجم عن فشله المحتوم في الوصول إلى سره، الذي هو سر العالم بالضرورة .. شقاء لا يمكن أن يخفف من جسامته تذكير معتاد يردده في ذهنه خلال تلك اللحظات: “إنه مجرد مكان آخر .. فقط مكان آخر، لم يلمسه أغلب الموتى المكدسين في قبور مغايرة” .. الإحساس الذي يتضاعف إذا ما أصبح هذا المكان مألوفًا له.

يا معلّم

لو بتسكّر هالشّباك يا معلّم

الهوا يا معلّم

رح يسفقنا الهوا يا معلّم.

“فيروز” الغالية …

الذين كانوا يسمعونك معي في ليل الثمانينات ماتوا .. غادروا “البوسطة” منذ زمن، وتركوا الشبابيك مفتوحة .. وأنا الذي كنت أجلس أمامك بقلب مفعم بالامتنان والخوف؛ ما زلت أحبك بما يفوق الوصف، وما زلت أكره السائق .. أنا عندي حق يا فيروز.