الأحد، 8 سبتمبر 2019

غرام الطرقات

في مدينة كهذه، حيث تطارد المسالمين من العشاق الصغار عداوات متجذّرة، كان منطقيًا أن يكون لعجوز مثلها عمل مستقر .. يقصد بيتها ولد وبنت طلبًا للحماية فتخرج معهما، تسير برفقتهما داخل المنعطفات الهادئة أو الأقل ازدحامًا كأنها أم لأحدهما، كي تمنع عنهما التهديدات المحتملة عندما تتشبث كف كل منهما بالآخر .. تجلس بجانبهما فوق أريكة مواجهة للنهر فيقدران بفضل وجودها أن يتلاصقا، أو يختلسا على نحو متقطّع قبلات صغيرة، أو ملامسات جسدية أكثر تماديًا في أمان .. ما تكسبه العجوز من مهنتها لا يتجاوز بحسب ما أرادت تلك الحكايات التي تجمع كلماتها المتناثرة من عيون وملامح العشاق الصغار، وأفعالهم المسروقة في ظلها الأمومي، وهمساتهم الأشبه باعترافات غير متعمّدة لها، كذلك الانفعالات العابرة التي تحاول كتمان أسرارهم، فضلًا عن الكيفية التي يودّع بها كل منهما الآخر في نهاية اللقاء .. كانت أشبه بالخبيئة الثمينة التي يحتفظ بها زبائنها فيما بينهم، ولا يمررونها إلا لأقرانهم وثيقي الصلة من الأحبة الذين يقطعون خطواتهم الأولى داخل شوارع لا يستطيعون فيها وحدهم أن يصدوا الأذى عن أنفسهم .. هكذا استطاعت بالثقة المتبادلة أن تُبقي عملها خفيًا ورائجًا في ذات الوقت .. لم يكن حذرها راجعًا إلى أن معرفة الناس بمهنتها ستجعلهم بصورة عفوية يطلقون عليها "قوّادة غرام الطرقات"، وإنما لأن هذه المعرفة ستضع دون شك حدًا قاطعًا لعملها .. لكنها لم تكن تراهن فقط على وفاء زبائنها ـ الذي لم يُخدش أبدًا ـ بعهودهم معها، وإنما على الذاكرة المتخاذلة أيضًا لأولئك الذين يحاصرون العشاق الصغار المسالمين في كل مكان، خاصة مع تحديد مواعيد متباعدة لخروجها معهم، والتغيير المستمر لمسارات سيرهم، ومواضع جلوسهم.
كان للعجوز في شبابها أحبة لا تتذكر هل خرجت برفقتهم أم لا، وكان لها زوج مات بعد خمسة وأربعين عامًا من لحظة إغلاق باب البيت عليهما وحدهما للمرة الأولى، كما كان لها أربعة أبناء، مات ثلاثة منهم وبقي أصغرهم .. طفل أصبح في الثانية والأربعين الآن، يشاهد أمه وهي تكافح بواسطة الكلمات المتناثرة من العشاق الصغار المسالمين أن تتوصّل إلى ما لم تستطع على الإطلاق أن تفهمه من حكاياتها الشخصية القديمة .. أن تدرك ما ظل غائبًا عنها طوال الوقت من حكايات زوجها وأبنائها الموتى داخل شوارع تلك المدينة .. يراها هكذا كلما أغمض عينيه، كأنما يوقظها من قبرها، ويدفعها للقيام بالأمر حتى تنقذه قبل أن يلحق بهم .. لكنها كلما استمرت في الخروج برفقة الأحبة، والمشي بجوارهم، أو الجلوس بجانبهم أمام النهر كلما شعر بوطأة احتضاره تشتد، ومع هذا لم يكن قادرًا على الامتناع عن جعل أمه الميتة تكرر ذلك .. كالعادة رسم في ذهنه صيغة ساخرة لهذا الذي أصبح طقسًا يدور بلا توقف داخل عتمة جفونه المطبقة .. اعتبر أن جسده قد اكتشف مرضًا جديدًا، غير مسبوق؛ فهو الكائن الوحيد الذي كلما أغمض عينيه كلما شعر بضيق حاد ومتصاعد في التنفس.
منصَّة (Rê) الثقافيَّة ـ 7 سبتمبر 2019
الصورة: Dagny, Bastugatan, Stockholm, 1949. Photograph by Christer Strömholm.