الأحد، 19 أغسطس 2018

الصفعات

أدخل إلى حجرة شقيقتي الكبرى باكيًا بحرقة وأطلب منها أن تقتلني .. لا ترد عليّ، ولا تلتفت ناحيتي .. ألح عليها متوسلًا، لكنها تواصل تجاهلها التام لي .. أخرج من حجرتها متوجهًا إلى حجرة أمي .. أقول لها بنحيب أشد أن أختي رفضت قتلي، وأن عليها أن تفعل هذا بدلًا منها .. تضحك أمي بسخرية حقيقية ثم تقول أنهما لن تقتلاني، وأنني مهما فعلت فإن هذا لن يمنعها من أن تخبر أبي بعد عودته باللفظ السافل الذي خرج من فمي منذ لحظات.
 قبل قليل كانت شقيقتي الكبرى توّجه إهانة اعتيادية لي .. رددت عليها قائلا: "إللي يتكلم معايا كده هنيكه"...
ربما كان انفجار أنبوبة البوتاجاز سيُحدث أثرًا أخف من ذلك الذي صنعته هذه الكلمة التي لم تكن هذه بداية نطقي لها داخل البيت وإنما في حياتي بشكل عام .. دخلت أختي إلى حجرتها وأغلقت على نفسها، ودخلت أمي إلى حجرتها وأغلقت على نفسها، وبقيت واقفًا وحدي صامتًا في منتصف الصالة .. شعرت بما يشبه الإفاقة في أقصى حد صادم لها .. نعم .. أنا الذي تفوهت بهذه الكلمة، وكنت أخاطب شقيقتي الكبرى، أمام أمي .. لا أصدق أنني فعلت ذلك مهما كانت رغبتي الملحة في تجريب المفردات والتعبيرات الشعبية الوضيعة التي لا تنتمي إلى قاموسي اللغوي، لكنها تغزو حياتي عبر الشارع والمدرسة .. بدأت في البكاء .. كان الرعب من أبي الذي اقترب موعد رجوعه يقتلني دون شك، ولكنني كنت صادقًا في رغبتي أن أقتل بيد إحداهما .. لم يكن هذا الإلحاح المنتحب مجرد رجاء يائس للحصول على الغفران الذي يمحو إصرارهما المفروغ من حتميته على إبلاغ أبي بقدر ما كان توسلًا حقيقيًا لنيل العقاب المستحق بالنسبة لي على هذه الجريمة التي لا أستوعب ارتكابي لها .. كان حرماني من الحياة هو الجزاء الوحيد العادل، الذي يناسب حجم الإثم البشع الذي انتهكت به البراءة الخالصة لهاتين الشخصيتين الملائكيتين، واللتين كانتا قبل تفوهي بهذا اللفظ تتسمان بعكس ذلك تمامًا .. كانتا عبدتين شريرتين وبائستين لأبي .. جاسوستين مرتعدتين له ضدي، تتلذذان بلهفة بعقابه لي كي تتمكن روحاهما المشوهتين من تحمّل عذابهما.
عاد أبي ودخل حجرته ثم أخبرته أمي فنادى عليّ وأمرني بالجلوس فوق السرير .. سألني وهو يقترب نحوي بجسده الغليظ القوي إذا كنت قد قلت هذه الكلمة بالفعل .. ظللت أميل للخلف على السرير مع قرب التصاقه بي وهو يرفع يده السمينة المطبقة عدا الإبهام والسبابة والوسطى المضمومة لأعلى في إشارة الاستفهام المهدد، وأنا أغمغم بصوت واطئ مرتعش، ودقات قلب قوية متسارعة، وأنفاس متقطعة، وارتجافات منتفضة في كل جسدي: "أنا مش عارف قلت كذه إزاي" .. هكذا يقولون في الأفلام والمسلسلات عند المآزق الصعبة والمحرجة، وتتم مسامحتهم ويفلتون أحيانًا .. ها أنا مستمر في تقليد الآخرين ... ثم .. طااااااااخ.
بقيت في سرير أبي، وتحت الغطاء لفترة خلال هذه الليلة .. ربما مثلما تظل أمي قدرًا من الوقت في نفس المكان بعد مضاجعته لها قبل أن تنهض لتدخل الحمام .. بقيت في سرير أبي لأنه أمرني بعد الصفعة المهولة، الروتينية، القادرة على أن تكون حرقتها أكثر صدمًا وإذلالاً من سابقتها دائمًا أن أظل هناك، وألا أخرج من حجرته إلى أن يأذن لي .. ربما كانت هذه هي الإضافة الضرورية المطلوبة في العقاب نتيجة طبيعة الذنب .. كان ما فعلته غير معهود، وأفظع من الأخطاء الاعتيادية التي تواجه بالصفعات وحسب؛ لذا كان لابد لعقاب أبي أن يمنحه متعة تتجاوز ما يحصل عليه كل مرة من ألمي .. منذ تلك الليلة وحتى الآن أصبحت الصفعات تلطمني من الجميع، ومن كل شيء، خاصة لو كان يبدو جميلًا أو غير عدائي: كلمات الآخرين .. ضحكاتهم .. صمتهم .. نظراتهم .. حواراتي الداخلية مع نفسي .. تطلعي لوجهي في المرآة .. الأشياء التي أراقبها ومازال هناك في العالم من يعتقد أنها تخلو من الحياة.
من المتوالية القصصية "البصق في البئر" ـ قيد الكتابة
photo by sebastian luczywo