الأربعاء، 7 فبراير 2018

الدوران

حينما أدور وحدي حول بيت قديم في الليل، وأفكر أن السماء لابد أن تمطر الآن .. حينما أتبادل النظر في إحدى مرات الدوران مع قطة هزيلة تقف وحدها في الظلام .. حينما أفقد الرؤية للحظة واحدة مع انزلاقة خفيفة لقدمي أمام عيني القطة فوق مساحة مبللة بماء الصرف الصحي .. حينما أسأل نفسي فجأة: ما هذا الذي أفعله؟ .. حينما أتمعن في البابين الخشبيين للدكان المهجور المغلق تحت البيت، وأتصوّر أن لقاءًا ما يحدث الآن في هذه الساعة المتأخرة ورائهما .. حينما يمر أحد العابرين وينظر إلى وجهي فأبعد عينيّ عنه كلص سيتوقف قلبه قبل أن يسرق أي من المخبوءات التي يجهلها .. حينما أشعر أن ضجيج وثرثرة أربعين عامًا تصرخ جميعها في أذنيّ دفعة واحدة أثناء الخطو .. حينما يتجسّد في ذهني على نحو مباغت مشهد للنهر عند هذه اللحظة من الليل بالرقة المنغمة لتدفق لمعانه الخافت حيث لا أحد يجلس أو يمشي بجواره .. حينما أتذكر كافة الأماكن التي خرجت منها بتوهان أكثر وعورة، بينما كان النهر في انتظاري، ولم أجلس أو أمش بجواره .. حينما أفكر في أن جميع مسارات الأرض الآن خاطئة لأنها لا تؤدي إلى هذا الحيز المنكمش من العالم .. حينما أقف تحت شرفات ونوافذ البيت الكبيرة المتهدمة فأشعر كأنها تشكيلات منحوتة في شجرة عملاقة، غادرت حياتها، وتبدو في هذا الوقت كأنما تعيش نهاية حفل تنكري .. حينما أحاول أن أتخيل امرأة الآن، لم يسبق أن رأيتها من قبل، تساعدني على الطيران إلى هذه الشرفات والنوافذ عوضًا عن اجتياز البوابة المغلقة وصعود السلالم .. حينما أتصوّر أن سيارة ذات طراز عتيق لا يقودها أحد ستندفع فجأة من أحد المنعطفات الجانبية لتدهسني بينما أتخيل هذه المرأة .. حينما أعتقد أن جسدي سيتناثر تحت عجلات هذه السيارة كأشلاء من أوراق وفروع ريحان ولبلاب وأجنحة طيور وأسماك ورقية ملونة ونجوم فضية صغيرة، وأن آخر ما سأراه هو تبدد الجمال العاري للمرأة التي تخيلتها .. حينما أعاود الدوران حول البيت تجنبًا للسيارة التي قد تظهر في أية لحظة، فأشعر كأن صوت المرأة ينبعث من مسلسل إذاعي يبثه راديو ما من مكان قريب مجهول .. حينما أستمر في الدوران، محاولا الإنصات لصوت المرأة كي أكتشف ما تتحدث به فتعود إلى ذهني صورة جسدها العاري، ودون وجه واضح بينما تغرق ببطء في النهر الذي لا أحد يجلس أو يمشي بجواره .. حينما أشعر بطعم البيرة في فمي ورأسي الآن، وأن عينيّ تغمضان تدريجيًا مع اختفاء الثديين الكبيرين للمرأة التي تغرق مع أصوات متداخلة لمطر ومواء قطة وهمهمات شاحبة وصرخات وعاصفة تقتلع شجرة عملاقة وهدير سيارة مسرعة وموسيقى ختامية لمسلسل إذاعي .. حينما أفعل هذا فلن يكون أنا، بل ذلك القربان الثقيل الذي زرعه الوثن الصامت داخلي قبل وجود هذا البيت.
اللوحة: Shaun Tan - The Arrival 116
أنطولوجيا السرد العربي ـ 6 فبراير 2018