الخميس، 12 مايو 2016

موتى عند الحافة

تدفعني قصص مجموعة (تراب النخل العالي) لـ (فكري عمر)، الصادرة عن سلسلة (إشراقات جديدة) بالهيئة العامة للكتاب إلى التفكير في تلك الذات التي تقاوم المسالمة، وتتعدد مستويات ظهورها داخل القصص .. هذا التعدد تختلف معه آليات المقاومة التي تريد البصيرة الكتابية استخدامها في التحرر من ضرورة التصالح مع العالم أو حتمية ترويضه .. في قصص المجموعة نحن نقف مع (فكري عمر) عند حافة الانتهاك دون ملامسته أو دون التقدّم نحو التورط في عنفه .. نراقب محاولات تلك الذات للانفلات من الخضوع للرغبة في تنظيم الواقع، والتي تأخذ أحياناً ـ أي المحاولات ـ طبيعة الحلم.
إن فعل المقاومة ليس مجرد انشغال شخصي أو ممارسة مغلقة داخل الحدود الفردية بل إعادة تكوين للحياة بشخصياتها وأماكنها وأحداثها بما يعني إيجاد صورة جمالية للزمن يمكن من خلالها تأمل صراعاته كما لم نفعل من قبل .. لم يكن مشهد الشاب والفتاة في قصة (اختيار) اختباراً شهوانياً لإمكانية التمرد وسط مجتمع بشري متسلط بأقداره المظلمة بقدر ما كان فعل مقاومة يتسم بشيء من الطفولية التي تفضح العبث الجماعي لأولئك الذين يراقبون ويحاكمون ويسعون وراء العقاب .. هذا المشهد لا يحتمل أن يكون واقعياً وحسب، وإنما يحتمل أيضاً أن يكون ارتكاباً للفانتازيا .. حلم ينسجه خيال تلك الذات التي تقاوم المسالمة بطريقة أو بأخرى، وتقود الآخرين الذي يراقبون ويحاكمون ويسعون وراء العقاب إلى الوقوع في هذا الفخ .. أن يشترك هؤلاء البشر في حلم الولد والفتاة؛ فربما تكون هذه فرصة (طفولية) لتأمل أقدارهم المظلمة .. الرجال الذين لم يتمكنوا من الوجود مكان الشاب، والنساء اللاتي لم يتمكن من الوجود مكان الفتاة .. الذات إذن التي تختبئ هنا، كأنما تتلصص بعين من الداخل التي يُحاصرها المتجمعون أمام المشهد، وأخرى من الخارج التي تتفحص الصراع من مسافة أبعد، هذه الذات تستعمل الكتابة ليس لتوثيق رغبتها في التمرد فقط، وإنما لدفع البشر نحو المقاومة أيضاً .. الحرب التي لن ينجو منها أحد.
(الوجوه يعلوها تراب الغضب والخوف .. المواجهة تسكت في مكان، وتشتعل في آخر، الشاب، والفتاة اختفيا عن الأنظار وهما يهبطان من الممشى العالي للحديقة؛ ليدخلا من إحدى الممرات، ويتواريا بعد ذلك خلف حوائط خشبية، بينما أصوات ضحكات الفتاة ترج حوائط الجميع. تفتحت مسارات الغضب والشهوة التي وجدت لها طريقاً في معركة حامية دخل الجميع فيها .. ولم يخرج منها أحد ممن وقفوا في الأسفل سالماً).
في قصة (الحقيبة السوداء) نعثر على ظهور أكثر وضوحاً لهذه الذات من خلال شخصية كاتب القصة الجالس في المقهى، ويختبر الرعب الناجم عن وجود الحقيبة في هذا المكان .. لنقرأ هذه السطور التي تصلح كتعريف للذات الممتدة عبر قصص المجموعة:
(إنه يشاهد الأخبار كل يوم، وبرامج التوك شو. يقرأ روايات التشويق البوليسية، ليغذي ذلك الجانب المحرض على الجريمة من نفسه، لكن ما يحدث هناك على الشاشة، لن يحدث له بالتأكيد، ولن يصير رقماً في عداد المفقودين في الحادث الإرهابي).
أريد هنا شرح التوحد بين كاتب القصة، والذات التي تقاوم المسالمة، والبناء السردي الذي تنحاز له هذه الذات .. لو تصورنا أن الكتابة من ضمن أشكال المقاومة (دون تغافل عن تفردها البديهي) كمشاهدة الأخبار وبرامج التوك شو وقراءة روايات التشويق البوليسية فإنها بالمثل تعتبر من ضمن الطرق المختلفة التي يميزها الأمان اللازم .. حافة الانتهاك التي يقف عندها (فكري عمر) كما ذكرت في البداية .. أنت لست موضوعاً للأخبار ولبرامج التوك شو كما أنك لست شخصية من شخصيات الروايات البوليسية وإنما هذه هي سُبلك (الآمنة) للمواجهة .. بالاتساق مع هذا لابد أن يكون أسلوبك في التمرد على هذا الواقع (أي الكتابة) محكوماً بما يفرضه ذلك الجوهر المسالم حتى أثناء التحرك ضده، بالضبط مثلما لا يمكنك أن تكون من ضمن ضحايا حادث إرهابي داخل مقهى بسبب حقيبة .. الترتيب الجمالي للسرد في قصص (تراب النخل العالي) يُعد مرآة صادقة تماماً في تجسيد هذه الرؤية؛ حيث التشكيل الحكائي الذي لا يريد المقامرة ولكنه يحاول الاقتراب من مكامن الخطورة في حين تبقى هذه المساعي المتوالية راضخة لطمأنينة ما.
يندرج تكنيك (النسخ) ضمن استراتيجية المقاومة، وهو ما يعني أن تخلق صوراً عديدة للكيان الواحد تضمن استمراره رغم الشروط المضادة .. لكن هذا الضمان ليس الفائدة الوحيدة التي يمكن أن تحصل عليها المقاومة بل يمكن للتمرد أيضاً أن يضمن المسالمة التي انطلق منها .. يضمن الاحتفاظ بها .. هذا ما نصادفه مثلاً في قصة (ظل العطار) حيث العطار الذي يحمي الصبي (أي يحمي العطار نفسه في بداية تاريخه) ليتمكن من الإبقاء على قوته التي أصبحت عجوزاً .. أما الصبي فربما هو الذي سيصبح ذلك الشاب الذي يواجه المحقق في قصة (التحدي) ـ وهي قصة ترتفع فيها نبرة المقاومة مع اختفاء الذات المسالمة إلى حد ما، ثم هناك هذا التناسخ الملفت: لماذا لا نفكر في أن البشر الذين كانوا يراقبون الشاب والفتاة في قصة (اختيار) هم صور متماثلة للركاب في قصة (الباص) ـ التي تحيلنا لمسرحية (سكة السلامة) لـ (سعد الدين وهبة) ـ وأنهم صور أيضاً لأهل القرية الذين يتحاربون بسبب النخل المتساقط في قصة (تراب النخل العالي) .. إن ما يجمع كل هؤلاء في تلك القصص المختلفة هي المواجهة المتعددة والمرتبكة مع الماضي .. الخبرة التي لا تنقذ أمام ما يبدو أنها أبسط المآزق .. التاريخ الذي على استعداد دائم للسقوط .. حصيلة الزمن التي من الوارد أن تأخذك في أي لحظة إلى الموت .. الثوابت التي سيتمسك بشر آخرون ببقائها حتى لو اضطروا للقتل من أجل ذلك رغم أنها ستبقى كأسباب للجحيم أو للظلام كما في قصة (صيد النجوم).
أريد الآن أن أطرح هذا التساؤل الجوهري: ما الفرق بين الوقوف عند حافة الانتهاك، والتوغل داخله؟ .. ربما هو نفس الفرق بين نهاية قصة (ليل داخلي) حيث الراوي (الذات التي تسعى للتمرد مستعيرة ضمير الغائب) الذي تراجع عن أخذ عروسة الماريونيت إلى الفراش بعد أن تذكر الأفلام السينمائية الخيالية التي تتحول فيها هذه العرائس إلى قاتلات محترفات، نفس الفرق بين هذه النهاية ونهاية أخرى بديلة (انتهاكية) يأخذ خلالها هذا الشخص العروسة إلى الفراش ويضاجعها ثم يستفيد ويستثمر قصصياً في الحالتين: لو تحوّلت بالفعل إلى قاتلة محترفة، أو لو ظلت على حالها كما هي: مجرد عروسة ماريونيت .. لنسترجع مثلا ـ ونقارن ـ هذه السطور من قصة (حب بـ 17,50 دولاراً) لـ (تشارلز بوكوفسكي) من مجموعته (جنوب بلا شمال):
("التقط روبرت العارضة " المانيكان" وحملها إلى سيارته، وضعها في المقعد الخلفي وانطلق مبتعداً نحو منزله"، "كان قضيبه يضغط على مقدمتها، لم يكن هناك فرج لكن روبرت كان في حالة مروعة من الرغبة. أولجه بين فخذيها، كان أملساً ومشدوداً"، "لم تكن مثل باقي النساء اللاتي عرفهن، فهي لم ترغب بممارسة الحب في أوقات غير مريحة؛ لذا كان هو من يختار الوقت المناسب، كما لم يكن لديها دورة شهرية، قص بعض الشعر من رأسها وألصقه بين فخذيها").
في قصة (الحفل) وهي من أجمل قصص المجموعة دعونا نسير مع هذا الهاجس: لا يشاهد الأحياء الممثلين الموتى كما يبدو ظاهرياً بل العكس هو الصحيح .. إن المشاهدين موتى يتفرجون على الأحياء الذين يظهرون بوجوه شابة (عبد الفتاح القصري) و(محسن سرحان) و(محمود المليجي) و(زينات صدقي) .. كأن الجالسين (الموتى) يستغلون الفيلم (شباب أبطاله وأغانيه ورقصاته) لاستدراك ما لم يكن بوسعهم أن يمتلكوه في لحظاتهم الأخيرة حينما كانوا أحياء .. يتجاوز الأمر هنا مجرد الرغبة في الوجود داخل زمن قديم ينتمي إليه أبطال الفيلم .. الممثلون الأحياء في الفيلم يتفرجون أيضاً على الأصدقاء الموتى الذين يجلسون للمشاهدة، ويحرضونهم على المشاركة في الرقصة الأخيرة التي حاول الراوي (الذي يعرف أنه ميت) بواسطتها أن يتخلص من موته مؤقتاً .. لنتأمل هذه الكلمات جيداً التي تعطي دليلأً قوياً على هذا الهاجس:
(هم الآن على الشاشة وخارجها، في كل مكان حولنا. في الزهور المتوهجة في الأصص الخزفية على البلكونة. في الهواء الذي نستنشقه. في الغناء، والمرح الذي يشعرنا بدبيب الحياة).
الحياة لم يكن لها حضور إذن في أجسادهم قبل عبور الممثلين من الشاشة إلى خارجها .. قبل أن يحاول الأحياء في الفيلم إعطاء فرصة للمشاهدين الموتى للاستمتاع بحفل أخير فاتهم في الواقع .. السؤال: ما هي طبيعة الموت التي تجعلك تجلس لمشاهدة فيلم كهذا، وتشارك ممثليه رقصتهم الأخيرة؟ .. إنه ليس الموت التقليدي، بل ربما هو الموت الكامن في مراقبة شاب وفتاة يتعارك البشر بسبب قبلاتهما على كوبري حديقة (الهابي لاند)، أو صبي يفرش بضاعته أمام دكان عطار عجوز، أو في مراقبة سقوط النخل العالي.