الأربعاء، 6 أبريل 2016

أصوات العمى

في مجموعته القصصية (مملكة الأصوات البعيدة) الصادرة مؤخراً عن دار (روافد) يضع (أحمد الزلوعي) الفرد في مواجهة انعزاله الخاص على نحو يجعل من هذه المواجهة عتبة أو ممراً مجازياً للاشتباك مع الذاكرة الشخصية .. هذا الاشتباك يتسع ليشمل التاريخ الكوني بوصفه تراكماً من الأزمنة الشبحية غير المحكومة، التي تقف وراء لحظة الوجود بينما تحاول اكتشاف هويتها .. ربما هناك محاولة ممتدة عبر قصص المجموعة للسيطرة على الماضي ليس كفضاء ملتبس من الأسباب والدوافع الغامضة التي تُشكل تجارب وخبرات العالم، بل باعتباره الوجه المدرك للغيب .. التفاصيل التي يمكن استعمالها ـ كغنيمة سردية مثلاً ـ في اكتشاف المبررات والتدابير القدرية المجهولة التي تحاصر الحياة .. هذا الاكتشاف يتعامل معه (أحمد الزلوعي) كهاجس للهيمنة .. استيعاب مروّض للظلام القابض على المعرفة .. كسعي للخلاص خارج موضوع الزمن انطلاقاً من شروطه .. يأخذ الأمر شكل الإنقاذ الروحي كما في قصة (طاقة القدر)، وأحيانا يتجلى في سمة الوهم القادم من الأحلام كما في قصة (الحلم السابع)، وأحياناً يستغرق في طبيعة أقرب إلى الفانتازيا الميلودرامية كما في قصة (مملكة الأصوات البعيدة) حيث يتحوّل (معتز عبد الهادي) إلى سجل كوني يدمج بين أصوات ذاكرته الخاصة، وأصوات الكائنات الأرضية في حضورها اللحظي والتاريخي المنتشر في الزمن:
(التقط صوته وهو طفل يلهو في مدخل العمارة مع أبناء الجيران، وصوت أبيه يناديه ليصعد وصوت أمه تدعوه إلى الطعام .. ثم بدأت آذانه تلتقط أصواتا غريبة تنطق بلغات غريبة .. تعرف منها على الألمانية والأسبانية والإنجليزية، وأخرى لا يعرفها خمن أن منها السنسكريتية والآرامية والسيريانية .. أصوات شتى لسحرة في جبال بعيدة، وفرسان في صحار نائية، وجرحى يلفظون أنفاسهم الأخيرة، وفقراء في أكواخ بالية).
هذا السجل ليس مجرد توثيق أو امتزاج بين الإشارات المسموعة والمتناثرة، بل يبدو كحيز دلالي من العناصر المتنافرة التي تريد العثور على صياغة صحيحة للتساؤلات القادرة على بلوغ الغاية القدرية الأبعد .. التوصل إلى التآلف أو التوافق المناسب بين هذه الاستفهامات التي تتجلى ظاهرياً في شكل معطيات نمطية لانتزاع ما يشبه الحكمة الغيبية التي تمنح لكل صوت من هذه الأصوات التحرر الجدير به.
هذا الانشغال بالقدر نجده أيضاً في قصة (انفجار إطار أمامي) وهو تأمل يخضع أيضاً لتكنيك (البانوراما) أي تجميع الحالات المختلفة في نطاق فوقي أو مشهد لازمني موحد، له القدرة على أن يكون رهاناً استثنائياً بإيحاءاته واستجواباته التي تتخطى حدوده الواضحة .. في هذه القصة ملامسة للعلاقة بين الغيب ولعبة تحديد المصائر التي تُرسم تلقائياً دون تعمّد ولكن كاستجابة عفوية لاحتمالات كان من الضروري أن تتحقق.
هناك نبرة ذاتية يمكن ملاحظتها أثناء مراقبة (الأصوات) وهي تحاول الاندماج عبر الزمن كأسلوب جمالي للتفكير في القدر .. قراءة أسراره .. الفهم ومقاومة العمى بطريقة ما .. هذه النبرة تعطي ذلك الشعور بإدراك أن الغيب ـ رغم التعويض الروحاني ـ سيظل فكرة مغلقة .. أنه لن يمكن الاستقرار على هوية مُخلّصة للوجود، وأن الأسباب والدوافع التي تُشكل تجارب وخبرات العالم ستظل غامضة .. لنقرأ السطور الأخيرة من قصة (تجوال ليلي):
(تنبه إلى أن يسير بمحاذاة الجدران خشية المطر .. رمق السماء .. كان المطر قد هدأ وعاد رذاذا، والأرض قد شبعت وامتلأت عيونها بالرضا .. اندفع إلى وسط الطريق الغارق الذي لا يبالي بالرذاذ والبرد .. قرر التجوال في المدينة بلا هدف لكنه كان يشعر مسبقاً أنه بالصدفة سيجد نفسه أمام بيته).
إذا كان هذا التجوال الذي مهما تشتت سيصل إلى نفس النقطة التي يواجه فيها الفرد انعزاله الخاص، إذا كان هذا التجوال هو التجسيد الأعنف لما يمكن أن تعنيه المبررات والتدابير القدرية المجهولة التي تحاصر الحياة؛ فإن المتجول في هذه القصة يمثل وجهاً آخرً من (ابراهيم المغربي) في قصة (طاقة القدر) الذي عاش في رؤيا الملائكة والنور والأنبياء والبحار التي تعج بالحور، والطيور التي تغني على بوابات السماء .. يقف (أحمد الزلوعي) بين كافة الأوجه الممكنة للكائنات التي تترك أصواتها كعلامات لمواجهاتها غير المتكافئة مع القدر .. إذا لم يكن للتفاوض ـ قصصياً ـ مع الغيب، فعلى الأقل لإعادة كتابة الماضي .. أي لخلق العالم.