السبت، 19 ديسمبر 2015

الانفجار العظيم

دون رغبة في إنجاز شيء، وبلا نية في تحقيق أي غرض قرر أن يلتقط صوراً لبيته .. وقف أمام حائط .. مجرد حائط لونه بيج فاتح، فارغ من الصور واللوحات، ويخلو حتى من الشروخ أو الثقوب الملهمة .. التقط صورة للحائط العادي .. وقف أمام كرسي .. مجرد كرسي أنتريه لونه نبيتي، لا يجلس عليه أحد، وليس في النمط المألوف لتصميمه أو في زخارفه التي على هيئة أوراق شجر صفراء إيحاءات غير تقليدية .. التقط صورة للكرسي العادي .. وقف أمام سرير .. مجرد سرير بملاءة بيضاء ذات نقوش زرقاء ضئيلة، تتمدد فوقه وسادة عريضة، وفي نهايته بطانية سوداء مطوية عدة مرات، ولا توجد في التشكيلات المجوفة لمسنده الخشبي أفكار غريبة .. التقط صورة للسرير العادي .. أبواب .. شبابيك .. ستائر .. سقوف .. دواليب .. أدراج .. طاولات .. التقط صوراً عشوائية كذلك لفضاءات متنوعة تضم أجزاءً مبتورة من أشياء عادية في كادر واحد: مثلاً زاوية سفلية من شاشة التليفزيون مع طرف جانبي لستارة بيضاء مسدلة وراء حافة منضدة يظهر على لوحها الزجاجي قطعة من قاعدة أباجورة صغيرة  .. منذ سنوات كثيرة جداً يفعل ذلك دون التقيد بموعد محدد أو بمناسبة معينة وبلا أي دافع، حتى أنه ربما لم يعد يتذكر متى كانت المرة الأولى التي التقط فيها صورة لكيان ثابت ومعتاد داخل بيته .. أصبحت لديه سجلات بصرية متراكمة مختلفة الأزمنة لنفس الأشياء معلقة على الجدران، ومنتصبة فوق أسطح الأثاث الملائمة لوضع الصور .. تغطي أحد الحوائط مثلاً لقطات سخية تجسّد الأوقات المتعاقبة التي مرت على ذلك الحائط .. نفس الأمر ينطبق على كرسي الأنتريه؛ تتراص فوق الطاولة القريبة منه كادرات توثّق اللحظات التي عاشها الكرسي بالإضافة إلى صور أخرى تجمعه بتلك الطاولة، وبالحائط الملتصق به .. تنتظم فوق الكومودينو المجاور للسرير لقطات تحتفظ بما شهده هذا السرير من أحوال خلال عمره في ذلك المكان، إلى جانب كادرات تضمه مع الكومودينو والحائط الذي يقف وراءه .. كانت الصور القديمة تظهر في اللقطات الجديدة بالطبع .. منذ سنوات كثيرة جداً أصبح يعيش داخل صور البيت، وليس البيت نفسه.
لكن الصور لا تبقى كما هي .. بعد فترات متباينة يبدأ في الظهور داخل كل لقطة ظل أو أكثر .. خيال غائم جداً أو عدة خيالات تفقد بهتانها تدريجياً وبسرعات متفاوتة حتى تتضح تماماً .. تبدأ كائنات في الظهور داخل الكادرات .. رجال ونساء وشباب وبنات وأطفال وكهول وعجائز وحيوانات أليفة وطيور زينة في أقفاص .. يبدون في أوضاع منسجمة مع الإلزامات المنطقية للصور التي يظهرون في داخلها فتتحول اللقطات إلى كادرات فوتوغرافية طبيعية جداً.
يأكلون ويتكلمون ويشربون ويتشاجرون وينامون ويتمازحون ويتبرزون ويبكون ويشاهدون التليفزيون ويتبولون وينشرون الغسيل ويلعبون الورق ويتضاجعون ـ كانت لهذه النوعية من الصور مكانة عظيمة في قلبه، باستثاء صور العجائز في تلك الحالة إذ كان يتحاشى النظر إليها ـ ويقفون في الشبابيك ويمارسون العادة السرية ويحلقون ذقونهم ويذاكرون ويرقصون ويلاعبون قططهم وكلابهم وطيورهم ويسقون الزرع ويمسحون الأرض ويكنسون السجاجيد وينفضون المراتب ويطبخون ويبدلون ملابسهم ويمشطون رؤوسهم ويستلقون فوق الكنبات والسرائر ويهرشون في مؤخراتهم وفيما بين أفخاذهم ويقرأون الكتب والمجلات والصحف والرسائل والفواتير ويجلسون أمام الكومبيوترات ويتكلمون في التليفون وفي الموبايلات ويصلّون ويحتضنون ويقبلون ويضربون الأطفال ويستحمون ويكتبون ويغسلون أسنانهم بالمعجون ويتلصصون على بعضهم ويصنعون مقالب لبعضهم ويقصون أظافرهم وينزعون الشعر من أجسادهم ويضعون المكياج والكريمات والعطور ويدخنون ويسكرون ويضربون بعضهم ـ كانت الأمور تصل أحياناً إلى القتل ـ ويحيكون الثياب ويستمعون إلى الراديو ويدقون مسامير في الحوائط ويعلقون لوحات ويكوون الملابس ويقيمون حفلات أعياد ميلاد ويلعبون بلعب الأطفال ويغسلون الأطباق والأكواب ويضحكون ويتقيأون ويتناولون الأدوية ويعزفون الموسيقى ويغنون ويؤدون حركات مجنونة في المرايا ويقتلون الذباب والناموس والصراصير والفئران.
توجد صور تُظهر تجمعات لقطع ناقصة من أجسادهم أحياناً لا تعطي يقيناً عن طبيعة المشهد المصوّر .. ليس هناك امتثال لوضعيات جامدة داخل اللقطة، وإنما يوجد تغير مستمر في الأشكال التي يبدون عليها، كذلك ليس هناك التزام بأن يظل شخص معين أو مجموعة محددة من البشر داخل إحدى اللقطات بل يتنقّل الجميع بحرية تامة بين الكادرات في أي وقت .. يختفي أحدهم من صورة ليظهر فوراً في أخرى ثم يتركها إلى لقطة جديدة أو يعود إلى الكادر السابق .. يتقدمون في العمر أيضاً، وإنما بوتيرة أسرع بكثير من المعدّل الطبيعي .. تتعاقب علامات الكبر على أجسادهم داخل الصور بعنف لا يخضع إلى زمن خارجها إذ يبدو تأثير مرور اليوم الواحد كتأثير مرور سنة.
عند موت أحدهم يختفي من آخر لقطة كان موجوداً فيها .. يختفي فحسب .. لا تظهر في الكادر لحظة موته .. نفس الأمر ينطبق على الحيوانات والطيور .. تظهر علامات التعب والمرض في الصور لشخص ما بدرجة تدفع صاحب البيت لتوقع اقتراب نهايته .. تستمر إشارات الاحتضار في التصاعد ثم يتبخر هذا الشخص تماماً من اللقطة بما يعني أنه أصبح جثة .. حتى في حالات القتل؛ كانت الكادرات تُبين اللحظة الأخيرة للمقتول وهو على قيد الحياة ثم ينعدم وجوده داخل الصورة في اللحظة التالية .. حينئذ يظهر في ذهن صاحب البيت وعلى الفور تاريخاً محدداً باليوم والشهر والسنة .. يدرك صاحب البيت بشكل تلقائي جداً أن ذلك هو الزمن الذي مات فيه الشخص أو الحيوان أو الطائر المختفي من اللقطة .. لا يعرف صاحب البيت أي من أسماء الذين يسكنون الكادرات .. يعرف فقط تواريخ موتهم بمجرد غياب أجسادهم من الصور .. بعد اختفاء أحدهم يبدأ في الظهور داخل اللقطة ظل جديد .. خيال غائم جداً سيفقد بهتانه تدريجياً حتى يتضح تماماً .. يبدأ كائن جديد في الظهور.
يمتلك صاحب البيت حساباً على (فيسبوك) .. لا ينشر على صفحته أشياءً شبيهة بتلك التي يمكن أن ينشرها أي مستخدم آخر .. ليس عنده صور ولا خواطر ولا فيديوهات ولا أخبار ولا أغاني ولا لوحات ولا ألعاب كما أنه لا يشترك في أي حوار ولو حتى بتعليق بسيط في صفحة أحد الذين تضمهم قائمة أصدقائه .. فقط حينما يختفي أحد الذين يسكنون اللقطات المكدسة بما يعني موته يكتب في صفحته مثلاً:
تاريخ الوفاة 7 ديسمبر 1983
(لكن من ينام قد تعوده الأحلام وذاك سر العقبة)
(هاملت).
في يوم آخر يكتب:
تاريخ الوفاة 4 يوليو 1876
(إني أحس أن مرجل الجنون في جسدي، يفور قاصداً قلبي، ذي نوبة الخبل العظيم)
(الملك لير).
في يوم آخر يكتب:
تاريخ الوفاة 15 إبريل 1954
(وسأحرق كاللهب المجنون، أنى كنت وحيث أكون)
(حلم ليلة صيف).                                            
ذلك فحسب هو كل ما ينشره على (فيسبوك) .. تاريخ موت المختفي من أحد الكادرات، والذي يظهر في ذهنه على الفور مقترناً باقتباس لـ (شكسبير) .. هو نفسه لا يفهم لماذا (شكسبير) بالذات ، ولكنه يدرك أن الاقتباس يتحدد تلقائياً في عقله مع اختفاء الكائن من الصورة مثلما يظهر تاريخ موته على الفور .. تحولت صفحته بمرور الزمن إلى أرشيف ضخم لموتى بلا أسماء .. لا يجيب أبداً على فيضان الأسئلة الذاهلة، متواصلة التدافع من التعليقات والرسائل، والمشتعلة في كثير من الأحيان بالغضب والتهكم: من هؤلاء الذين تنشر تواريخ وفاتهم؟ .. هل تنتمي إلى سلالة من الحانوتية؟ .. لماذا تقتبس من (شكسبير) مع كل تاريخ؟ .. هل كنت تحلم في طفولتك بامتلاك مقبرة؟ .. لماذا لا تنشر أي شيء آخر؟ .. لماذا لا تُسمي صفحتك بـ (النصب التذكاري)؟ .. لماذا لا تعرض خدماتك على أقسام الوفيات بالصحف؟.
ذات يوم سيتوقف عن التقاط الصور .. ليس هذا فحسب بل ذات يوم سيحرق بيته أيضاً، وستحترق معه كل الصور بجميع الكائنات التي لا تزال تعيش في داخلها .. حيئنذ سيتوقف عن نشر تواريخ الموت واقتباسات (شكسبير) على صفحته بـ (فيسبوك) .. سيكف أولئك الذين تضمهم قائمة أصدقائه عن غمره بالاستفهامات وبالسخرية من غموضه .. ليس لأنه سيتوقف عن نشر التواريخ والاقتباسات، بل لأن أولئك الذين تضمهم قائمة أصدقائه لن يكونوا حيئنذ على قيد الحياة.

مجلة الإذاعة والتليفزيون
العدد 4214
19ديسمبر 2015
اللوحة لـ van gogh