الأحد، 29 سبتمبر 2024

يوميات: غرفة سرية داخل نفسي

لا تشبه المدينة التي أسكنها منذ ولادتي “المنصورة” أي مكان حلمت بالعيش به .. الأماكن التي عاش بها بطوط، المغامرون الخمسة، دكتور جيكل ومستر هايد، ديفيد كوبر فيلد، وجيم هوكنز على سبيل المثال.

بيتي الآن أكثر اتساعًا وأناقة من بيت طفولتي، لكنه أقل براحًا وحميمية، وما يطل عليه لا يتسم بنفس الحيوية والإثارة .. الفرق بين منطقة برجوازية “الجوازات”، وأخرى شعبية موغلة في القدم “ميت حدر” .. بين سماء كنت ترى أطباقًا طائرة وكائنات غامضة تحلّق في نهارها وليلها وراء البيوت، وسماء أخرى مرصوفة بالفقد.

“يتوحد المحقق ويغيب داخل الاستراقات والاختلاسات التي تستقر وتدور في مكائد الجنس والعنف والكوميديا الممتزجة في “ميت حدر” كسلالات لخفاء الماضي، كل الماضي، ولتواريخ الشبق المتوارية في كتب السحر لجميع الشعوب، ومخطوطات الانعزاليين المنكمشة على أحلام وأمزجة المتعة التدميرية للمدن القديمة: موسكو تشيكوف، براغ كافكا، باريس موباسان، بيونس آيرس بورخيس، دبلن جيمس جويس، نيويورك سالنجر، سان بطرسبرج دوستويفسكي .. ذاكرة تشكّل عري الأجسام التي تطارد بعضها في غابة الهمسات واللهاث والتأوهات الممتدة والمتشعّبة في الأزمنة الغابرة”.

هكذا وصفت ميت حدر في نوفيلا “مقتل نجمك المفضل” .. هي منطقة تستطيع بالثراء المطلوب أن تشتري فيها بيوتًا بقاطنيها .. أن تمتلك رجالها ونساءها وأبنائهم .. تستطيع أن تحوّل حارة منها إلى ضيعة صغيرة تتنقل داخلها بين فرائسك ..  لكنك لا تستطيع أن تكون صديقًا حقيقيًا لهم لو كان كل ما تملكه هو النفور من طبائعهم، والحذر من شرورهم، والرغبة في إكسابهم الروح القوطية، أو مثلما كتبت في نوفيلا “جرثومة بو”:

“أن يكتب كل ساكن بيت نسخته الهازئة، غير المتماثلة من الأضواء الحمراء الدموية، والحمى، والظلال، والسموم، والأقنعة، والأبواب المتوعدة، والأكفان، والبرد، والجثث المتحللة، والنوافذ الزجاجية المرتجة، والظلام، والكتب القديمة، والدفن تحت الألواح الخشبية، والشموع ذات اللهب المتراقص في الظلام أمام المرايا، والمشانق، والتوسلات، والكوابيس الملونة بمزيج من الأزرق والأخضر، والتعاويذ، وخيوط العنكبوت، والهياكل العظمية، والسماء والغيوم والآفاق القرمزية، والتراب، والأنصال المسنونة، والجماجم، والحوائط والأسقف المشتعلة، والرموز، والأقبية، والغرقى، والرؤوس المهشمة، والجبال، والأقمار المكتملة، والأودية السحيقة، والغرف السرية، والأشجار الكثيفة، والأنين، والهواء الرمادي، والعواء، والشحوب، والتنهد، والأشباح، والبكاء، والأحياء المدفونين، وخفقات القلب الرهيبة، والأحجار السوداء، وأنوار المصابيح القوية، والسحب الداكنة، والتوابيت، والأبواب الحديدية، والشروخ، والقصور، والوجوه المخيفة في الصور، والأبراج، والأساطير، والنقوش، والعواصف، والهلوسات، والطرق الريفية، والقبور، والأعاصير، والبحيرات المعتمة، والخنادق المائية، والضباب، والستائر السوداء، والسلالم الخشبية، والوساوس، والضلالات الجنونية، والكراهية، والهستيريا المخيفة، والغرور، والصناديق السرية، والغضب، والسراديب، والندم الوحشي، والبيوت المنهارة، والتسلط، والشبابيك المتهدمة، والارتباك، والعفن السائل، والأمراض المجهولة، والعظام المحطمة، والسُكر، والمفاتيح الملغزة، والتصعلك الحالم، والرعد، والأوهام، والأصوات المفزعة في العقل، والرياح الليلية، ودفاتر السحر، والبرق، والأصداء الحادة، والكائنات الخرافية، والأدخنة الكثيفة، وممرات الجحيم المتخمة بالنيران المسعورة”.

 ومن ثمّ تجعلهم عبيدًا لخيالك …

 ظللت طوال الطفولة مترصدًا لهم في شرفتي .. كل ما هو صدئ ومخرّب كنت أغزوه بحواسي، وأجتاحه ببصيرة كارتونية تمزج بين الاستفهام والفضول والشوق الجارف للهيمنة على الأسرار .. ما كنت أسميه لعبًا، وأصبح يعني بعد ذلك تدميرًا .. رأيت إدجار آلان بو يتنزه في ميت حدر من قبل أن أقرؤه.

كنت أفعل ذلك بنفس اللهفة والشغف اللذين كنت أتخيّل بهما ما سيصبح ذكرى مدوّنة حرفيًا في روايتي “إثر حادث أليم”:

“أتذكر أنني كنت أجلس ذات ليلة منكمشًا بسعادة فوق (الكوفرتة) التي تغطي (ماجدة) وهي جالسة على السرير، مستندة إلى المخدة، وتقرأ كتابًا .. قلت لها وأنا أفكر في مغامرات الليل البحرية لـ (بطوط) والأولاد الثلاثة وعم (دهب)، وكذلك في (جيم هوكنز) برواية (جزيرة الكنز) لـ (روبرت لويس ستيفنسون)، وفي حكاية (حسن البصري) من مسلسل (ألف ليلة وليلة)؛ قلت لها منتشيًا: (أنا دلوقت فوق جزيرة) .. نظرت إليّ مبتسمة، وداعبتني بالسؤال (يعني أنا دلوقت متغطية بالجزيرة؟) ثم عادت لاستكمال القراءة، وأنا أتخيّل السفينة، والعواصف، والأمواج العالية، والمخلوقات الخرافية، والخرائط، والمطاردات، والانتصارات المؤكدة”.

كانت تلك الشرفة هي منزل عزلتي أو مخبأي المعلن داخل بيت الأسرة، وبعد أن غادرتها، ما عاد يليق بـ “الريحان” و”اللبلاب” و”الجارونيا” زراعتهم في شرفة أخرى .. ما كان يُشكّل حديقتي الصغيرة التي ينكمش جسدي بين فروعها وأوراقها عصرًا بينما يُغلق باب الشرفة على الغائبين في قيلولتهم اليومية .. كانت تلك الشرفة تناظر غرفتي السرية داخل نفسي، التي لم تتوقف عن تذكيري بأني مسجون كلما شعرت بنشوة الوصول إلى ما توهمت أنها حافة حرية كاملة .. منذ أن كنت طفلًا وحتى الآن، ظلت هذه الغرفة السرية هي العائق الجوهري أمام أن أتظاهر بالحرية كالآخرين .. إما أن تكون كاتبًا أو تدعي أنك تستطيع فعل أي شيء كمغامر بكينونة إلهية .. أحيانًا تتحوّل إرادة الدمج بين الطبيعتين إلى هوس غريزي كما كان لدى همنجواي مثلًا، أو ما يُعرِّف الشكل النمطي للأسطورة الشخصية مثلما كتبت في “مكائد القص”:

“مجابهة الموت وترويضه وقبوله كجزء من دورة الحياة .. الصراع بين الخجل المرير الذي كان يشعر به إزاء انتحار أبيه، ومصافحة الموت بالاندفاع نحو أكثر احتمالاته قوة، والتوحد مع كابوس الإنهاء الحتمي للحياة بطريقة ما كآخر ما يمكن للأسطورة الشخصية أن تقدمه كدليل على الكرامة أمام حصانة الفناء”.

بتعبير آخر عدم السماح للعجز الذي اضطررت في النهاية للإقرار به عن امتلاك الكتابة والحرية المطلقة معُا بأن يكون الكلمة النهائية .. هذا ما برر لهمنجواي إطلاق النار على نفسه …

لكنني كنت أواجه نفسي والعالم دومًا بعدم حريتي .. بأن الحرية لا وجود لها .. تأملاتي الطفولية للحياة والموت كانت تكشف منذ البداية الحواجز الغيبية التي تحاصر نفسي .. القيود الاستباقية التي شيّدت غرفتي السرية داخل نفسي .. هذه المواجهة هي الكتابة كبصمة عصيان، تمنعك من التظاهر بالحرية، أي تحرمك من هذه المتعة البطولية الكاذبة .. كينونة إلهية مضادة، يتزايد إدراكك على مدار العمر بأنها لا توجد خارج الكلمات، وهو ما يضمن لغضبك في نفس الوقت أن يتصاعد، أن تتحوّل رغبتك في الانتقام إلى كفاح بأن تكتب “كل شيء” .. وما كتابة “كل شيء” إلا أسطورتك المناقضة لمفهوم الأسطورة الشخصية ذاته .. بندقيتك الخاصة التي تطلق بها النار على نفسك في كل لحظة.

22 سبتمبر 2024

عن "مكان جيد لسلحفاة محنطة"

كلما كنت أقرأ مجموعة قصصية، أسأل نفسي سؤالًا: هل يستطيع الكاتب، بكلمات قليلة ومكثفة وهو يصف الأحداث، أن يكتب الشخصيات بعمق يتخطى الوعي ويغوص في عمق اللاوعي ومتناقضات النفس البشرية؟

في مجموعته القصصية "مكان جيد لسلحفاة غير محنطة"، أجاب الكاتب على سؤالي بأنه نعم، ولكن هذه موهبة صعبة، ولذلك هذه المجموعة استثنائية بلا جدال. لوحات كبيرة مقسمة إلى تفاصيل مرئية وصوتية متناثرة الأجزاء وفى النهاية تحصل على أجمل لوحة مكتملة الأركان الفنية ،
يضع البذور وتحصدها أنت في النهاية، كما أنها مباغتة بالشكل الذي يجعل جملة أو كلمة في نهاية القصة تجعلك تقرأ القصة من جديد ببعد مختلف.
كل ما تراه من أفعال وكلمات ونبرة صوت من الناس وراءه أكوان أخرى وأفلاك، هل قررت يومًا إدراك ذلك؟
عناوين القصص معبرة جدًا عن كل قصة، حتى إنه في بعض الأوقات لو لم تقرأ العنوان، لن تفهم القصة.
حتى في عالم الكتابة، لم أعد أرى العالم كما كنت أراه بعد هذه المجموعة المحكمة بلا شاردة واحدة.
في المجموعات القصصية لبعض الكتاب، كنت أشعر بالإحباط، لأن الكاتب في بعض القصص يعبر عن نفسه بصدق، وفي قصص أخرى يستميل الجمهور فقط ولكن الكاتب هنا عبر عن نفسه بنفسه بصنعة احترافية .
هذه المجموعة القصصية هي أمتع حكايات لحكاية الرجل الذي كتب القصة القصيرة "ممدوح رزق".
محمود عبد الغني

الاثنين، 16 سبتمبر 2024

يوم آخر للقتل: ليالي شبح شهرزاد

استنادًا إلى يوم يأتي بعد يوم آخر يماثله، وإلى القتل، وإلى أسلوب الحكاية داخل الحكاية أو القصص التي تتشعب وتتداخل من قصة تبدو أساسية يبدأ بها السرد وينتهي عندها؛ ثمة راوية محتملة تتقمص دور شهرزاد في رواية "يوم آخر للقتل" للكاتبة هناء متولي والصادرة عن الدار المصرية اللبنانية؛ لكن أي شهريار تخاطبه؟

"أنات خفيضة وآسرة، لا تنقطع، تملك عقول نساء قرية كوم الديبة بأكملها، لا تفرق بين عجوز أو رضيعة، تسير في كل اتجاه، حتى كأنهن يرينها بقدر ما يسمعنها، وبالرغم من ذلك فالصوت لا يصل إلى آذان الرجال أبدًا، كأن موجاته تتكسر على حواف مسامعهم".

تخاطب شهرزاد الرجل الذي يدرك بشكل غير واع بأنه حُرم من أصل كامل ومحصن، وأنه بكفاحه الغريزي المستمر لتعويض هذا الحرمان (الفعل الدنيوي) قد ازداد ابتعادًا عن  ذلك الأصل المجهول أي تعمّق غيابه في بشريته. تخاطب الرجل الذي يتمرد دون استيعاب على قدره كإنسان، أي على النموذج المثالي الذي تجرّد منه، مجاهدًا بهذا التمرد أن يسترد ذلك الأصل أو ما حوّله الإنسان إلى مثال كوني مطلق يتم الخضوع له أو استرضاء ما يُعتقد أنها الإرادة الخفية لهذا النموذج، وليتبرأ بفعل الكبت من هذا التمرد بإحالته عفويًا إلى قوى غيبية مستقلة مثل "الشيطان" يُنسب لها العصيان أو الممارسات الفاسدة، خاصة تلك التي تتصل مباشرة بما يُسمى "الماورائيات". تخاطب شهرزاد الرجل الذي يحتمي بنصوص تمييزية اتخذت طبيعة السلطة الذكورية (التقاليد والأعراف والمحرمات) التي أنتجتها منذ القدم، وتوطدت سطوتها عبر الزمن.

"تنساب نساء القرية من أسرّتهن كالماء في لحظة واحدة، يصعدن إلى أسطح المنازل، بعد أن ارتدين ثيابًا سوداء، حاسرات الرؤوس، يصعدن إلى الأعلى حيث لا حجاب بينهن وبين السماء، يستنشقن هواءً لم يختلط بعد بأنفاس الرجال، يخرجنه زفيرًا غاضبًا، يمزقن جلاليبهن حتى تصير صدورهن حرة من دون خوف، ويبدأن في الصراخ والعويل الذي ينهش القلوب، ويُفزع كل الموجودات".

أصبح تمرد شهريار على الصفة الإنسانية والإرادة الضمنية لامتلاك الأصل الخيالي الغامض الذي يعجز أن يكونه، وباعتماده على الأسس النصية التي خطها التحيز الذكوري؛ أصبح هذا التمرد قائمًا على "قتل النساء". ماذا عن شهرزاد نفسها؟

"تقف أمام المرآة تتفحص عودها الفارع، وعينيها الخضراوين، وبشرتها الفاتحة المشرّبة بالحٌمرة، تحتضن جسدها، وتغمض عينيها وتدندن بلحن قديم، وتدور بالغرفة في رقصة حالمة، تتعثر وتسقط على الأرض، تقوم ببطء، تضع طرحة على رأسها وتنزل إلى بيت حمويها كأن شيئًا لم يكن".

تحاول المرأة في احتضانها الراقص لجسدها مثلما كانت تفعل أسما في المرآة أن تقاوم إخفاقها في امتلاك "شهرزاد الغيبية"، أو "الإشباع التام الذي لا يُخدش"، وأنها بهذه المقاومة تمعن في الانفصال عن جوهرها "الخارق" المفقود، أي يتمادى حضورها القهري كـ "امرأة" يترصدها التمرد الذكوري باعتبارها هدفًا سهلًا. تسعى شهرزاد المؤقتة والعابرة أن تقبض على شهرزاد "الخالدة" المتوارية في الخفاء الكوني، أي التي قرر النموذج الأبوي (صنيعة الرجل نفسه) أن يستحوذ عليها. ذلك ما يجعل هذه المجابهة الأنثوية تكتسب أحيانًا تلك الطبيعة الذكورية تماهيًأ مع السلطة التي تستعبدها.

"جلست سارة أمام مرآتها لساعات، أرادت أن تكون شهية كما السابق" ...

"تستدير يمينًا ويسارًا، وتدهن جسدها بزيت الزيتون حتى صارت لامعة تؤكل من دون جهد، ارتدت عباءة قانية تصفُ جسدها بانحناءاته وثنياته، يبدو خصرها نحيلًا بالرغم من ذلك، وبعنقها الطويل تحني رأسها".

يتخذ الأمر إذن هذه الصيغة: رجل يحاول تعويض "إعجازيته الغائبة" عبر جسد المرأة، ولكن استمتاعه بهذا الجسد يرسخ افتقار الرجل لذلك الأصل الإعجازي، كلما حاصر هذا الجسد وقمعه كلما أيقن أن سلطته الذكورية زائفة، غير مطلقة، ومن ثمّ يتعيّن عليه مواصلة الانتقام من هذا الجسد حتى يستعيد نموذجه الخيالي. على جانب آخر تحاول المرأة تعويض "شهرزادها المتعالية" بأن تكون شهية من غير تنكيل بحريتها، كما أرادت سارة في المرآة أيضًا "تؤكل من دون جهد"، ولكن جسدها يوقن أنه لن يمنح المتعة الأبدية، ومن ثمّ يتعيّن عليها الثأر من شهوة الرجل الذي دمغ جسدها بالشر وقدمها قربانًا لخلاصه المستحيل، حتى تسترد ذلك الجسد المقصي (تمنحه لها المرآة) الذي يُشبِع دون نقصان.

"عندما وصلت إلى هذه النقطة شعرت بالانتصار، فقد بدا الخوف واضحًا على يحيى وعرفت بعد ذلك بتهربه من إنجي وبُعده عنها، فالجبن صفة ذكورية بامتياز، لكن في بعض الأحيان كان يساورها القلق بأن هذا الهدوء هو الفخ الذي يسبق العاصفة، وأن مصير إنجي يتطابق مع مصيرها؛ علاقة معقدة ومرفوضة، متعة في الجنس والهروب، ظلام وندم لا يساوي شيئًا في النهاية كأنه الموت من دون دفن".

لا تروي حكاية كل امرأة نفسها وحسب، ولكنها تروي أيضًا الحكايات الأخرى، بحيث تتحوّل كل "غائبة" إلى "متكلمة" في عمق الرواية، وكأن لكل صوت أنثوي نبراته السردية المتعددة واللانهائية "أنات ليلية خفيضة وأسرة". ليس صوت سارة وأمها وخالتها وإنجي وأسما وسمية ومنى وظريفة ومسعودة وفاطمة وسناء فقط، وإنما صوت كل جثة لا تزال محتفظة بأنفاسها "الموت من دون دفن" أو التي فقدتها. صوت يتقمص ضمنًا دور شهرزاد التي تصوغ الحكايات وتنظمها. الحكي الذي يتجاوز المعطيات الواقعية المباشرة ليفتت بالصمت الرابض في طياته "الحقيقة" التي فرضتها مشيئة الرجل عنها. الصمت الذي يتحوّل إلى صراخ وعويل بثياب الحداد الممزقة فوق أسطح المنازل "بينما الرجال يغطون في نوم ثقيل". يتسلل ما تم إخراسه عبر لغة الحكاية لكي يهدم البناء البلاغي للسلطة التي تستعمل المرأة في إثبات بداهتها، مروياتها الراسخة وإحالاتها، يعطّل مدلولها الذي يبقي الألم الأنثوي ملكية خاصة للرجل.

"ما يميز تلك الأسطورة أن بطلتها امرأة حقيقية، لديها أطفال وعائلة، لكن لا يعرف ذلك إلا الكبار فقط، فالصغار يكبرون على مهابتها، وعندما يكبرون ويعرفون قصتها؛ لا يقصون لصغارهم إلا الأسطورة المعتادة، ليورثوهم رعبًا قديمًا مترسبًا داخلهم ولا يتلاشى".

كأن الحكاية لا تُسرد فعليًا وإنما تناوش الاحتمالات والفرضيات الكاشفة والمنقذة (العقابية) الكامنة في ما ترويه المرأة مستعيرة صوت شهرزاد / الراوية التي تسرّب وقائع القهر والاغتيال بعيدًا عن التفسيرات النمطية المستقرة في التأويل الذكوري، وكأن شهرزاد لا تؤجل قتلها وحدها وإنما تؤجل قتل الأخريات اللاتي ينتظرن مصيرهن المشابه. لكن شهرزاد قُتلت بالفعل في اللحظة التي استُخدم فيها ضمير الغائب المهيمن على الوجود بصيغة المذكر، مثلما تُقتل مجددًا في كل يوم آخر، وما صوتها الذي يحكي القتل المتوارث للنساء إلا همسات طيف يراوغ المعرفة التي راكمها "شهريار" بوصفها "مرجعًا كليًا" للحياة والموت. شهرزاد لا تخاطب شهريار الذي "تتكسر موجات صوتها على حواف مسامعه"، ولكنها تخاطب اللعنة التي جعلته ذليلًا لملكوته المتوهم.

"هل يجعل ضحاياه من النساء قرابين لأعوانه وللسحرة؟ ولماذا يطبع عليهن وشم الفضيحة واللعنة بالغرق؟ هل يقتلهن ليخفي معهن جرائمه؟ هل يقدمهن رشوة للمسئولين الفسدة الذين يتسترون على أفعاله؟ أم هل هناك لعنة حقيقية تصيب النساء فقط في قريتها وتوكّل وعصابته يستغلون اللعنة فقط لمصلحتهم؟ توقف عقلها من زحام الأسئلة وفراغ الإجابات، ورأت ألا تجهد نفسها في معرفة الأسباب، لا فارق إن كان يستخدمهن في السحر أو الدعارة أو خلافه، الحقيقة الوحيدة أنهن غريقات لطمعه، وأن الترعة صارت مقبرة جماعية لنساء القرية والغريبات عنها، طمي القاع اختلط بالعظام ونبتت بوسطها شجرة اللعنة التي تطرح سمومًا وغيمًا يحجب الحقيقة، وتطرح أيضًا الصراخ والقهر في كل مساء".

كيف يمكن للكاتب أن يضمّن روايته "معلومات" بحثية أو استقصائية يعتبرها ضرورية ـ العالم المأساوي للفتيات والنساء الريفيات مثلًا ـ من دون أن يتحوّل عرضها إلى ما يشبه مقالًا صحفيًا أو تقريرًا مؤسسيًا؟ .. تكمن الإجابة ببساطة في ثلاث خطوات: الأولى هي توزيع المعلومات على مناطق متفرقة من السرد، بمعنى ألا يتم تضمنيها كفقرة واحدة داخل الرواية سواء على لسان إحدى الشخصيات أو كمحتوى ذهني لها في لحظة معينة. الثانية أن يكون هذا العرض ضمن مونولوج داخلي لشخصية أو أكثر، بمعنى أن يكون جزءً جوهريًا من تفكير واستفهام وحوار الشخصية مع نفسها أي من وعيها وتجربتها داخل حركة السرد ذاته. الخطوة الثالثة هي أن يكون العرض متلازمًا ومرتبطًا بملاحظات مشهدية، انتباه إلى متعيّن، تأمل ومجادلة لمنظر تشكله أفعال لافتة، أو مفارقات تحوّله إلى دراما.

الأمر الآخر: هل تحتاج كتابة الحوار بالعامية أي بما يتسق ويكشف طبيعة المتكلمين في رواية شخصياتها من الريفيين؛ هل تحتاج إلى شجاعة؟ .. ما يبرر الفصحى في الحوار عند كتابة رواية كهذه هو الإخبار بحديث الشخصية أي النقل عنها بلغة الراوي أو الراوية، لا أن يكون الكلام على لسان الشخصية مباشرة. إنه الفرق على سبيل المثال بين: "ربما أدين لكِ باعتذار من الماضي .. كنا لا نزال مراهقات بعقول أطفال" وبين الكتابة بهذه الطريقة: "أخبرتها بأنها ربما تدين لها باعتذار من الماضي، وأنهما كانتا لا تزالا مراهقتين بعقلي أطفال".   

"وبعد يومين، وجدوها تسير في شوارع القرية حتى توجهت إلى الترعة ثانية، كان وجهها أشد غلظة، وأكثر غرابة، وظل الناس يتناقلون علاقتها بالجان، ولابد أنه من عاونها على الهرب، وتزايدت القصص والخرافات حولها، البعض يقسم أنه رآها تطير في الليل فوق الترعة بصحبة الغوازي اليهوديات، والبعض يقول إنها تتحدث إلى مارد يعشقها يجعلها بالصباح مجنونة ويعيد إليها عقلها في المساء ليأنس بها، والبعض يدعي أنها قتلت إنجي من أجل الجان وتريد أن تدفع عنها التهمة بادعاء الجنون، حتى إن مسعودة قالت عنها إنها ساحرة".

استعملت سارة قتلها في اجتياح "الحكمة" المترفعة التي تتوارى جثث النساء في أسطوريتها. تحوّلت إلى ما أراد قاتلوها أن يكون صورتها النهائية: جسرًا غيبيًا يعبرونه نحو النجاة. لكنها لم تكن مجرد قربان انتقامي، وإنما خلقت من دمائها أسطورة مناقضة، تجسيدًا نقيًا لشبح شهرزاد التي ظلت مرجأة، "امرأة مجنونة تطير في الليل" وتستخدم أرواح الغريقات في "قتل الحكمة".

أخبار الأدب

2 سبتمبر 2024

الاثنين، 2 سبتمبر 2024

الاعتراف الأول / فرانك أوكونور ـ ترجمة: ممدوح رزق

بدأت المشاكل كلها عندما توفي جدي وجاءت جدتي – أم والدي – لتعيش معنا. في أفضل الأوقات تكون العلاقات بالمنزل متوترة، ولكن ما زاد الأمور سوءًا أن جدتي كانت عجوزًا ريفية بحق وغير مناسبة تمامًا للحياة في المدينة. كان وجهها سمينًا، متجعدًا، وما أثار السخط الشديد لأمي أنها كانت تتجول في المنزل حافية القدمين؛ إذ يصيبها الحذاء بالشلل، على حد قولها. في العشاء، تتناول إبريقًا من البيرة ووعاءًا من البطاطس مع قليل من السمك المملح أحيانًا، تسكب البطاطس على الطاولة ثم تأكلها ببطء، وبلذة كبيرة، مستخدمة أصابعها بدلًا من الشوكة.

من المفترض أن تكون الفتيات شديدات الحساسية، لكنني كنت أكثر من عانى مِن وجود جدتي. أختي نورا تملقت فورًا السيدة العجوز مقابل الفلس الذي تحصل عليه كل يوم جمعة من معاش الشيخوخة، وهو أمر لم أستطع فعله. كنت صادقًا جدًا، وتلك كانت مشكلتي. وعندما كنت ألعب مع بيل كونيل، ابن الرقيب، ورأيت جدتي تسير في الردهة وإبريق البيرة يبرز من تحت شالها؛ شعرت بالخوف. اختلقت أعذارًا لعدم السماح له بالولوج إلى المنزل؛ لم أكن متأكدًا أبدًا مما ستفعله عندما ندخل.

كانت أمي في العمل وأعدت جدتي العشاء، لكنني لم ألمسه. حاولت نورا إجباري على الأكل، لكنني اختبأت منها تحت الطاولة وأخذت سكين الخبز معي لحمايتي. أظهرت نورا غضبًا شديدًا (لم تكن تشعر به طبعًا، لكنها كانت تعلم أن ذلك ما ستكون عليه أمي في هذه اللحظة، لذا وقفت إلى جانب جدتها) ثم بدأت في مطاردتي. ناوشتها بسكين الخبز، وبعد ذلك تركتني وشأني. بقيت تحت الطاولة حتى عادت أمي من العمل وأعدت لي العشاء، لكن عندما دخل أبي لاحقًا، قالت نورا بصوت مصدوم: “أوه يا أبي، هل تعرف ماذا فعل جاكي في وقت العشاء؟” ثم أفشت كل شيء بالطبع. صفعني أبي فتدخلت أمي بيننا، وبعد ذلك لأيام عدة لم يتحدث معي، وبالكاد تحدثت أمي مع نورا.

حدث كل هذا بسبب تلك المرأة العجوز! ويعلم الله أن قلبي قد احترق. ثم، لتتويج مصائبي، كان عليّ أن أقدم اعترافي الأول. امرأة عجوز تدعى ريان هي التي أعدتنا لهذه الأمور. كانت في نفس عمر جدتي تقريبًا، ميسورة الحال، تعيش بمنزل كبير في مونتينوت، وترتدي عباءة وقلنسوة سوداوين، تأتي كل يوم إلى المدرسة في الساعة الثالثة، عندما يُفترض أن نعود إلى بيوتنا، لكي تتحدث إلينا عن الجحيم. ربما تذكر المكان الآخر أيضًا، لكن ذلك لا يكون إلا عن طريق الصدفة. كان الجحيم هو المكان الأول في قلبها.

ذات يوم أشعلت شمعة ثم أخرجت نصف تاج جديد، وقدمته إلى الصبي الأول الذي سيضع إصبعًا واحدًا ـ إصبعًا واحدًا فقط! ـ في اللهب لمدة خمس دقائق بحسب ساعة المدرسة. ولأني دائمًا طموح جدًا؛ كنت أميل إلى التطوّع، لكنني اعتقدت أن الأمر قد يبدو جشعًا هذه المرة. ثم سألتنا العجوز هل نخشى من وضع إصبع واحد – إصبع واحد فقط! – في لهب شمعة صغير لمدة خمس دقائق ولا نخاف من الاحتراق بالكامل في أفران التحميص الساخنة إلى الأبد. “الأبدية كلها! فقط فكر في ذلك! العمر كله يمر دون أن يمثل شيئَا، ولا حتى قطرة، في محيط معاناتك”. كانت المرأة مثيرة للاهتمام حقًا فيما يتعلق بالجحيم، لكن انتباهي كان منصبًا على نصف التاج. في نهاية الدرس أعادته إلى حقيبتها. خيبة أملي كانت كبيرة؛ امرأة متدينة كهذه، لم أعتقد أنها ستهتم بشيء مثل نصف تاج إلى هذا الحد.

في يوم آخر، قالت إنها تعرف كاهنًا استيقظ ذات ليلة ليجد زميلًا لم يتعرّف عليه متكئًا على حافة سريره. كان القس خائفًا بعض الشيء، بطبيعة الحال، لكنه سأل الرجل عما يريده، فقال الرجل بصوت عميق أجش إنه يريد الاعتراف. قال الكاهن إن الوقت قد لا يكون مناسبًا، ويمكن تأجيله إلى الصباح. لكن الرجل قال إنه في المرة الأخيرة التي ذهب فيها للاعتراف، كانت هناك خطيئة واحدة احتفظ بها لنفسه، لأنه خجل من ذكرها، ولا يستطيع التخلص من التفكير في ذلك. عندئذ عرف الكاهن أن الأمر سيء، وأن الرجل كان قد ارتكب خطيئة مميتة. نهض الكاهن ليرتدي ملابسه، وفي نفس اللحظة سمع صياح الديك في الفناء بالخارج، لكنه حين نظر حوله لم يكن هناك أي أثر للرفيق، فقط كانت هناك رائحة خشب محترق. وعندما تطلع الكاهن إلى سريره؛ وجد أثر اليدين المحترقتين على حافته. تركت هذه القصة انطباعًا صادمًا في نفسي.

لكن الأسوأ من ذلك كله كان عندما علمتنا العجوز ريان كيف نفحص ضمائرنا. هل أخذنا اسم الرب إلهنا باطلا؟ هل أكرمنا آباءنا وأمهاتنا؟ (سألتها هل هذا يشمل الجدات فقالت إنه كذلك)، هل نحب جيراننا مثل أنفسنا؟ هل اشتهينا ما عند جارنا؟ (فكرت في شعوري تجاه الفلس الذي تحصل عليه نورا كل يوم جمعة). قررت أنني لا بد قد خرقت الوصايا العشر بأكملها. كل ذلك بسبب تلك العجوز، وأدركت بأنها طالما بقيت في المنزل، فإنه لا أمل لي في أن أكون شخصًا آخر.

كنت خائفًا حتى الموت من الاعتراف. وفي اليوم الذي ذهب فيه الفصل بأكمله من أجل ذلك؛ ادعيت بأنني أشعر بألم في أسناني، على أمل ألا تلاحظ العجوز غيابي، ولكن في الساعة الثالثة، تمامًا وفي اللحظة التي كنت أشعر فيها بالأمان؛ جاء شاب يحمل رسالة من السيدة ريان  تشدد فيها على ضرورة أن أذهب للكنيسة يوم السبت من أجل الاعتراف بنفسي. وما زاد من تفاقم الأمر أن أمي لم تستطع الحضور معي وأرسلت نورا بدلاً منها.

تمتلك هذه الفتاة طرقًا لتعذيبي لا تعرفها أمي. أمسكت بيدي بينما كنا ننزل التل، وابتسمت بحزن وقالت إنها آسفة للغاية من أجلي، كما لو أنها ستأخذني إلى المستشفى لإجراء عملية جراحية.

“يا إلهي، ساعدنا!”. ظلت تردد متشفية. “أليس من المؤسف أنك لم تكن ولدًا صالحًا؟ أوه جاكي، قلبي ينزف عليك! كيف ستتذكر كل ذنوبك؟ لا تنس أن تخبر الكاهن بالمرة التي ركلت فيها الجدة في ساقها”.

“دعيني أذهب! ” قلت محاولًا تحرير نفسي منها. “لا أريد أن أذهب إلى الاعتراف مطلقًا”.

“ولكن بالتأكيد عليك أن تذهب إلى الاعتراف، جاكي!” أجابت بنفس لهجة الأسف المصطنعة. “إذا لم تفعل ذلك، فسوف يأتي كاهن الرعية حتمًا إلى المنزل للبحث عنك. يعلم الله أنني لست حزينة من أجلك. هل تتذكر الوقت الذي حاولت فيه قتلي بسكين الخبز من تحت الطاولة؟ هل تتذكر اللغة التي خاطبتني بها؟ لا أعرف ما الذي سيفعله بك الكاهن جراء كل هذا، ربما يتعين عليه أن يرسلك إلى الأسقف”.

أتذكر أنني فكرت بمرارة في أن نورا لم تكن تعلم سوى نصف ما يجب عليّ الاعتراف به، إذا تمكنت أصلًا من الكلام. كنت أعرف أنني لا أستطيع ذلك، وفهمت تمامًا الدافع وراء رغبة الرجل في قصة السيدة ريان أن يحتفظ بالخطيئة المخجلة لنفسه. قد يخبئ المرء اعترافًا سيئًا، لكن العار الكبير ألا يتوقف الناس عن الانتقاد. أتذكر ذلك التل المنحدر حتى الكنيسة، وسفوح التلال المضاءة بنور الشمس وراء مجرى النهر، والتي رأيتها عبر الفجوات بين المنازل وكأنها آخر ما لمحه آدم من الجنة.

قادتني نورا إلى ساحة الكنيسة، وبعد أن دفعتني عبر الدرج الطويل؛ تغيّرت نبرتها فجأة، تحوّلت إلى الشيطان الخبيث المتوحش الذي هي عليه حقًا:

ـ ها أنت هنا! …

قالتها كصيحة انتصار، ملقية بي عبر باب الكنيسة…

ـ وآمل أن يعطيك مزامير التوبة، أيها المتعجرف الصغير القذر.

عرفت حينها أنني ضعت. أن مصيري قد أصبح في يد العدالة الأبدية.

أغلقت الباب المكوّن من ألواح زجاجية ملوّنة ورائي. انطفأ ضوء الشمس ليسود ظلام عميق وصوت الرياح يعصف خارجًا بحيث بدا الصمت في داخلي وكأنه يتشقق مثل جليد تحت قدميّ. جلست نورا أمامي بجوار صندوق الاعتراف. كانت هناك امرأتان عجوزان قبالتها، ثم جاء شيطان مسكين بمظهر بائس ليحشرني في الجانب الآخر حتى أعجز عن الهرب لو كانت لدي شجاعة لذلك. رفع يديه معًا، مدحرجًا نظرته نحو السقف وهو يلهج متألمًا بالرجاء. تساءلت في نفسي: “هل لديه جدة أيضًا؟”. لا يمكن أن تكون الجدة هي التفسير الوحيد لسلوك رجل محطم كهذا، ولكنه كان أفضل حظًا مني؛ فهو على الأقل يستطيع الذهاب والاعتراف بخطاياه، بينما سأدلي أنا باعتراف سيء ومن ثمّ أموت في الليل لأعود باستمرار كي أحرق أثاث الناس.

جاء دور نورا، وسمعت صوت شيء يدوي بقوة، ثم سمعت صوتها تتحدث ببرود معهود، كما لو أن الزبدة لا تذوب في فمها، ثم صوت دوي آخر قبل أن تخرج. يا إلهي، نفاق النساء! كانت عيناها منخفضتين، ورأسها محنيًا، ويداها ملتصقتين عند مستوى بطنها. سارت في الممر نحو المذبح الجانبي كقديسة. لم أر مثل هذا العرض من التقوى، وتذكرت الحقد الشيطاني الذي عذبتني به طوال الطريق من باب بيتنا حتى جاءت بي إلى هنا. تساءلت: هل جميع المتدينين مثل نورا حقُا؟

حان دوري الآن. دخلت باللعنة التي تثقل روحي وأُغلق باب الاعتراف خلفي تلقائيًا. كان الظلام دامسًا، ولم أستطع رؤية الكاهن أو أي شيء آخر. ثم بدأت أشعر فعليًا بالخوف. في الظلام؛ كان الأمر بيني وبين الله فحسب، ولديه كل الفرص لمعاقبتي. كان يعرف نواياي من قبل حتى أن أبدأ، ولم تكن لدي أية فرصة للنجاة. اختلطت كل المعلومات التي تلقيتها عن الاعتراف في ذهني. ركعت إلى أحد الجدران وقلت: “باركني يا أبي، لأنني أخطأت؛ هذا هو اعترافي الأول”. انتظرت لبضع دقائق، لكن لم يحدث شيء، لذا جربت نفس الكلمات باتجاه الجدار الآخر. لم يحدث شيء أيضًا. فقط كنت مرصودًا تمامًا.

لابد أنني حينئذ قد لاحظت الرف المرتفع بما يقارب رأسي. كان مخصصًا لكي يريح الكبار أذرعهم فوقه، لكن في حالتي المشتتة، اعتقدت أنه المكان الذي يٌفترض أن أركع عليه. كان الرف عاليًا بالطبع، وغير مجوّف بصورة كبيرة، لكنني كنت أجيد التسلق وتمكنت من الوصول إليه. الحفاظ على توازني كان صعبًا؛ إذ لم تكن هناك مساحة إلا لركبتيّ، ولا يوجد ما يمكنني التمسّك به سوى نوع من الزخارف الخشبية التي تعلو الرف قليلًا. تشبثت بها وكررت كلماتي بصوت أعلى، وهذه المرة حدث شيء بالفعل. فُتح باب كوة صغيرة للخلف، ودخل قليل من الضوء إلى الصندوق. قال صوت رجل: من هنا؟

“هذا أنا يا أبي”. قلت خوفُا من أنه قد لا يراني ويذهب مرة أخرى. لم أستطع رؤيته على الإطلاق. كان الصوت يأتي من تحت الزخارف التي أتمسّك بها، عند مستوى ركبتيّ تقريبًا، لذا تشبثت بالزخارف بقوة وانحنيت فرأيت وجه الكاهن الشاب وهو ينظر لي بذهول. كان عليه أن يضع رأسه على جانب واحد كي يراني عبر الكوة، وكان علي أن أفعل المثل كي أراه. هكذا كنا نتحدث ونحن مقلوبين بشكل ما. بدا لي أنها طريقة غريبة للاستماع إلى الاعترافات، لكنني كنت أشعر بأن شخصًا مثلي لا يمكنه الانتقاد.

“بارك لي يا أبي، لقد أخطأت؛ هذا هو اعترافي الأول” قلتها مرة واحدة، وبمزيد من الانحناء حتى أجعله يسمع كلماتي بطريقة أسهل. “ما الذي تفعله هناك؟” صاح غاضبًا، وكان الضغط يزداد على يدي المتمسكتين بالزخارف. صٌدمت من مخاطبته لي بهذه النبرة غير المهذبة، وكان ذلك فوق احتمالي. فقدت قبضتيّ القدرة على التشبث فسقطت متعثرًا وضربت الباب بقوة قبل أن أجد نفسي مستلقيًا على ظهري في منتصف الممر. نهض المنتظرون في الخارج فاغرين أفواههم، وفتح الكاهن باب الصندوق الأوسط وخرج مزيحًا قلنسوته إلى الوراء؛ بدا مرعبًا بعض الشيء. جاءت نورا تهرول ناحيتي “يالك من حقير صغير” قالت. “كنت أعرف أنك ستفعلها. كنت أعرف أنك ستخجلني. لا أستطيع أن أتركك بعيدًا عن نظري لدقيقة واحدة”.

قبل أن أتمكن من الوقوف للدفاع عن نفسي؛ انحنت وصفعتني على أذني. أتذكر ذهولي جيدًا، لدرجة أنني نسيت البكاء، حتى ظن الناس أنني لم أتعرّض لأي مكروه بينما في الواقع كنت أعتقد بأنني قد أصبت بعاهة مستديمة، لكن صرخة انفلتت من داخلي.

“ما هذا كله؟” همس الكاهن غاضبًا أكثر من أي وقت مضى ودفع نورا بعيدًا عني. “كيف تجرؤين على ضرب الطفل بهذه الطريقة، أيتها الثعلبة الصغيرة؟”. “لكنني لا أستطيع التكفير عن ذنوبه يا أبي” صاحت نورا وهي ترمقه بنظرة غاضبة. “حسنًا اذهبي وافعلي ذلك أو سأعطيك المزيد لتقومي به” قال الكاهن وهو يمد يده لمساعدتي على الوقوف.

“أتيت للاعتراف توًا يا رجلي المسكين؟” سألني.

قلت بصوت مكتوم: “نعم”.

“رجل ضخم مثلك يجب أن تكون لديه خطايا رهيبة، هل هذه هي الأولى لك؟” سألني الكاهن باحترام.

رددت بالإيجاب.

“هذا أكثر سوءًا” قال بكآبة “الآثام تستمر على مدار العمر، لا أعرف إذا ما كنت سأفرغ منك اليوم أم لا، من الأفضل أن تنتظر الآن حتى أنتهي من هؤلاء المذنبين القدامى .. يمكنك أن ترى من مظهرهم أنه ليس لديهم الكثير ليخبروك به”…

“سأفعل يا أبي” قلت بشيء يشبه الفرح …

كان ارتياحي هائلًا. لوحت نورا بلسانها لي من وراء ظهره، لكنني لم أكن مهتمًا بالرد. عرفت من اللحظة الأولى التي فتح فيها هذا الرجل فمه أنه ذكي فوق العادة. عندما كان لدي وقت للتفكير؛ رأيت مدى صوابي. كان من المنطقي أن يكون لدى شخص يعترف بعد سبع سنوات ما يقوله أكثر من الناس الذين يأتون إلى هنا كل أسبوع. آثام على مدار العمر. تمامًا كما أخبرني. هذا ما كان يتوقعه، والباقي لا يعدو سوى ثرثرة الفتيات والنساء والعجائز عن الجحيم والأسقف ومزامير التوبة. ذلك كل ما كانوا يعرفونه. بدأت في إجراء فحص لضميري، وباستثناء العمل السيء الوحيد المتعلق بجدتي، لم يبد الأمر بشعًا جدًا.

بعد قليل قادني الكاهن بنفسه إلى صندوق الاعتراف، وترك الشباك مفتوحًا بحيث يمكنني رؤيته وهو يدخل ويجلس في الجانب الآخر من الشبكة بعيدًا عني …

ـ حسنًا .. ماذا يسمّونك؟

ـ جاكي يا أبي …

ـ وما هي المشكلة التي تواجهك؟

قلت وأنا أشعر بأنه من الأفضل إنهاء الأمر بينما يحتفظ الكاهن بمزاج جيد:

ـ كان لدي ترتيب كامل لقتل جدتي …

بدا مذهولًا قليلًا لأنه لم يقل شيئًا لفترة طويلة …

ـ يا إلهي (قال أخيرًا) .. هذا سيكون أمرًا صادمًا .. ما الذي دفعك للتفكير في ذلك؟

قلت: أبي .. أشعر بالأسف الشديد من نفسي .. إنها امرأة فظيعة …

ـ هل هي كذلك؟ .. ما سبب فظاعتها؟

ـ تشرب البيرة يا أبي، وأنا أعلم جيدًا من حديث أمي عن ذلك أنها خطيئة مميتة، وآمل أن يتطلع الكاهن بنظرة أكثر إحسانًا إلى قضيتي …

ـ يا لها من مشكلة .. يبدو أنها أثرت عليك بقوة …

ـ وتتعاطى التنباك يا أبي …

ـ إنها حالة سيئة بالتأكيد، جاكي …

ثم أكملت بسرعة: وهي تتجول بقدميها العاريتين يا أبي، وتعلم أنني لا أحبها، وتعطي نورا قروشًا ولا تعطيني شيئًا، وينحاز والدي لها ويعاقبني، وفي ليلة ما كنت محطم القلب قررت أنه يجب قتلها …

سألني بشغف: وماذا ستفعل بالجثة؟

قلت: كنت أفكر في تقطيعها، وأن أحملها بعيدًا في عربتي ..

ـ والله يا جاكي .. هل تعلم أنك طفل فظيع؟

ـ أعلم ذلك يا أبي، لأنني كنت أفكر في نفس الشيء تجاه نورا .. حاولت قتلها بسكين الخبز من تحت الطاولة، لكنني فشلت …

ـ هل هي الفتاة الصغيرة التي كانت تضربك للتو؟

ـ نعم يا أبي …

ـ شخص ما سيذهب إليها ذات يوم بسكين الخبز ولن يخطئها “قال بشكل غامض” .. يجب أن يكون لديك شجاعة كبيرة .. كثير من الناس بيننا أود أن أفعل معهم نفس الشيء، ولكنني لن أمتلك الجرأة أبدًا .. المشنقة موت مرعب …

ـ هل هي كذلك يا أبي؟ (سألت بأقصى درجات التركيز؛ إذ كنت دائمًا مهتمًا للغاية بالشنق) .. هل رأيت يومًا ما شخصًا مشنوقًا؟

ـ رأيت العشرات منهم (قال بجدية) .. وماتوا جميعًا وهم يصرخون …

ـ يا إلهي …

ـ أوه .. موت مرعب (قال بارتياح كبير) .. كثير من الرجال الذين رأيتهم قتلوا جداتهم أيضًا، لكنهم جميعًا قالوا إن الأمر لا يستحق مطلقًا …

أبقاني هناك لعشر دقائق كاملة ونحن نتحدث، ثم خرج معي إلى ساحة الكنيسة .. كنت آسفًا حقًا لفراقه، لأنه كان الشخصية المواسية، الأكثر إثارة للإعجاب التي قابلتها في الحياة الدينية. في الخارج، وبعد الخروج من ظلال الكنيسة؛ كانت أشعة الشمس تشبه زئير الأمواج على الشاطئ. أدهشتني كأنما أراها لأول مرة. وعندما ذاب الصمت المتجمد وسمعت صرير الترامات في الطريق؛ حلّق قلبي. عرفت الآن أنني لن أموت في الليل وأعود مخلفًا أثرًا على أثاث أمي. ذلك كان سيسبب لها قلقًا كبيرًا، والمسكينة لديها ما يكفي …

كانت نورا تجلس على الدرابزين في انتظاري. رسمت تعبيرًا غاضبًا على وجهها عندما رأت الكاهن برفقتي. كانت تشعر بالغيرة لأنه لم يسبق أن خرج كاهن معها أبدًا من الكنيسة …

ـ حسنًا .. ماذا أعطاك؟ (سألت ببرود بعدما تركني الكاهن) …

ـ “الثلاث مرات السلام عليك يا مريم” …

ـ “الثلاث مرات السلام عليك يا مريم” (كررتها في شك) .. يبدو أنك لم تخبره بشيء …

ـ أخبرته بكل شيء (قلت بثقة) …

ـ عن الجدة وكل الأمور الأخرى؟

ـ عن الجدة وكل شيء آخر …

كانت كل ما تريده هو العودة إلى المنزل لتقول إنني أفسدت اعترافي …

ـ هل أخبرته أنك هاجمتني بسكين الخبر؟ (سألت بحدة) …

ـ فعلت ذلك بالتأكيد …

ـ وأعطاك فقط “الثلاث مرات السلام عليك يا مريم”؟

ـ هذا كل شيء …

نزلت ببطء من الدرابزين والحيرة واضحة على وجهها. كان هذا أمرًا خارجًا عن إدراكها. وبينما كنا نصعد الدرجات مرة أخرى نحو الطريق الرئيسي نظرت إليّ بريبة وسألتني:

ـ ما الذي تمصه؟

ـ قطعة حلوى …

ـ هل الكاهن منحها لك؟

ـ نعم …

ـ يا إلهي (صرخت باكية بمرارة). بعض الناس لديهم كل الحظ!. ليست هناك ميزة في محاولة المرء أن يكون صالحًا. ربما يمكنني بالأحرى أن أكون مذنبة مثلك.

موقع "الكتابة"

28 أغسطس 2024

الأربعاء، 28 أغسطس 2024

سماء بضفيرتين: الأنسنة الأنثوية للغيب

بدءًا من عنوان مجموعته الشعرية "سماء بضفيرتين" يخبرنا الشاعر المغربي عبد الجواد العوفير بأن قصائد هذه المجموعة الصادرة عن دار راية لا تعتمد "أنسنة الأشياء" بالتعبير الدارج فحسب، وإنما "أنسنة الغيبي" تحديدًا، بل و"الأنسنة الأنثوية" بتحديد أدق. الأنسنة التي لا تتماهى مع الغيبي، وإنما التي تعيّن نفسها بديلًا "صادقًا" له، الأنسنة التي تجرّد الغيبي من صورته المترفعة، ومن ثمّ تزيحه عن الحياة والموت.

"ألف الرفاق

في لفافة واحدة

وأدخنهم ببطء".

ثمة حس "ثأري" يبدو دافعًا أساسيًا في قصائد هذه المجموعة وبالأخص في قصيدة مثل "وهمي عال". حس يتناغم مع "الأنسنة الأنثوية" حيث "الموسيقى" هي الجسر الأكثر ملاءمة لإنزال الغيب من عليائه. هنا تبرز الغاية من استبدال الغيبي بالأنثوي. يتحوّل الغيب إلى هدف شبقي للشاعر. هدف يكمن وراء "تخيلاته الثأرية" ويقودها. يتحوّل "الوهم" إلى "ممارسة" مشحونة بالعنف اللائق.

"الموسيقى تهبط الأدراج

مثل امرأة غنوج

لكن بيتي سفلي

فكيف تخيلتُ أن الموسيقى

تهبط الأدراج الداخلية".

لكن هذا العنف لا يكشف عن احتدامه بصورة مباشرة، وإنما يتقمص سكون الغيب وغموضه، يكثّف العنف لغته إلى أقصى حد، بما يعادل الصمت الخبيث لذلك الغيب، يرد "الرعب" بالحدة الخفية نفسها. حتى أننا قد نشعر بـ "العتمة" المنزلية التي تواري هذا العنف، بعد أن حلت موضع العتمة السماوية بكل ما تضمره لانهائيتها. هذا ما يجعل "الثأر" تهكميًا بشكل جوهري.

"أنا وكافكا وحيدين في غابة

ندفع باب بيت قديم

نجد امرأة مخنوقة بالبكاء

نضاجعها الليل كله".

لنفكر في "المرأة" من خلال قصيدة "وحيدان في غابة" باعتبارها الحياة ذاتها، لا كما عاشتها "الأنا" في وحدتها المشتركة مع "كافكا"، وإنما كما قُدّر لها أن تكون رغمًا عنها. كما أُجبرت أن تكون إشارة للسر "الكوني" الذي لا يمكن تفسير "كابوسيته". الحياة هنا لا تقدم نفسها كشيء منطقي، وإنما ككيان موصوم بهوية قهرية، تطبق على أنفاسه، ومن ثمّ يكافح للتبروء من ثقلها. كقناع يقاوم الوجه المستتر للمطلق. يقاوم أن يكون ملامح ناجمة عن هذا الوجه. وكأن مضاجعة القناع هي مضاجعة الوجه المستتر. كأنها طمس متعمّد للوجه المستتر. وحيدان يخوضان متاهة الألم، نحو "فكرة" الحياة العالقة في الأزل، يخلقان من تعاستها أبديتهما الهازئة كما في قصيدة "نرفع أنخابنا لذكريات عالية":

"نخبئ ذكرياتنا في الجيوب

كمحاربين قدامى

ونقدمها للعاهرات كأجر

من يريد سماواتنا الصغيرة

من يريد هذه الأبدية

التي تنمو في قلوبنا كشجيرات عليق".

هذا خطاب "إلهي"، ولكنه خطاب "مضاد"، أي أنه يدرك مناوئة "السماوات الصغيرة" لـ "السماء"، يُشكّل أبدية خاصة تناقض "الأبدية" الكونية. الذكريات إذن هي سيرة المجابهة بين البشري والغيبي. تاريخ امتلاك البشري لغيبية ذاتية، تستعمل الفناء لكي تكتسب خلودًا "ينمو كشجيرات عليق".

"السحب التي أحببناها كنساء بعيدات

نرفع أنخابنا نحوها

...

فلتأت أيها الموت بملاكك الصغير

وأقتل هاته الأبدية

التي تتجمل مثل امرأة خجول".

يُنظر للسحب أحيانًا خارج طبيعتها الأصلية، شعريًا بالأخص، أي ككائنات حية تنتمي للمطلق لا إلى العالم، واتساقًا مع "الأنسنة الأنثوية" للغيبي التي تعتمدها المجموعة، وتحويل تفاصيله إلى أهداف شبقية؛ تصبح السحب نساءً تستجيب للأنخاب المرفوعة، وبما أن "الموت"، كناتج عن الأنسنة السابقة للغيبي، قد صار خاضعًا لـ "المحارب القديم"؛ فإنه من الممكن توجيه هذا الموت إلى المسار العكسي، نحو الأبدية التي طالما ظلت محصنة من بداهته، لكنها الآن لم تعد كذلك؛ أصبحت "تتجمل مثل امرأة خجول". ذلك ما يوطد "الثأر" كدافع أساسي. يوسّع تعريف "الشبق" ليصبح أكثر شمولية في استهدافه للغيب.         

"امرأة بوشاح أخضر

تلقي ابتسامة

وجهانا كإلهين هاربين

من سماء ضيقة".

تتضح الأنسنة الأنثوية المعتادة بدرجة ناصعة في قصيدة "في صحة الغائب". اكتسبت الألوهة سمة امرأة، لا تتسع لها "سماء المطلق". تصبح ابتسامتها عناقًا مع "وجه" لإله يُدار المشهد بمشيئته. الغائب ـ الذي كانت تتسع له السماء من قبل ـ تحوّل لامرأة بوشاح أخضر "هدف شبقي" فصارت سماؤه ضيقة، لذا كان عليه الاستجابة لإرادة الإله الذي خلق هذا التحوّل ـ هروبًا من السماء نفسها ـ بواسطة الابتسامة التي تعلن حيازة سماء أكثر اتساعًا. سماء جديرة بالمطلق الذي جرى استبداله.

"معلّمة الانشاء كانت ترتجف بين يديها الشمس

تنورتها الصغيرة علمتنا اللغة

وأنا الآن أنظر للشمس

تغيب اللغة".

اللغة ليست "تفصيلة غيبية" وحسب، ولكنها في قصيدة "لغة" هي "جوهر الغيب". الجوهر الذي يتحوّل بفعل "الأنسنة الأنثوية" إلى "إزاحة للغة". يجعلها موضع غياب. معلمة الإنشاء هي الإله الذي أصبح ينتج اللغة بدلًا من مصدرها الغائم. تحوّل "الغيم" إلى "ضوء" مشبعًا بشهوانيته / شمس مرتجفة. ذلك ما يجعل الضوء مجردًا من لغة المطلق. يصير خارج اللغة التي يستقر الغيب في أغوارها.

"المرأة التي تجلس وحيدة في البار

وترتدي شالا أحمر

تشبه الله الذي تركناه في المنزل

ألم نغلق الباب جيدا؟!".

كأن عنوان هذه القصيدة "ربما تشابه" يمثل إمعانًا في السخرية التي تدعم الاستبدال المعهود للغيبي بالأنسنة الأنثوية. لا يبدو هذا تشابهًا وإنما وجودًا يأخذ محل وجود آخر. مكانُا بديلًا للامكان. زمنًا بديلًا للازمن. هنا إعادة تسمية "الوحدة". لم تعد وحدة "إلهية"، وإنما وحدة "امرأة ترتدي شالًا أحمر". وحدة تناسب تحويل الغيب إلى هدف شبقي. تناسب الثأر الذي يقوم عليه هذا التحوّل.

هذه الأنثى التي تعيّن نفسها بديلًا للغيبي يمكنها أن تحمل روح "فرجينيا وولف" أو "مدام بوفاري"، لذلك فاكتسابها سمة الألوهة لا يجعلها "مخلّصة" بالمعنى "الديني" وإنما على العكس تجعلها منتهكة للخلاص، تكمن "أبديتها" في تقويض "النجاة"، في الانفصال عن "الحكمة"، أي خلخلة اللغة التي كان الغيب يستعملها في ترسيخ إكراهاته. لذا نجد عبد الجواد العوفير يستخدم ما يُعرف بـ "قلب المنطق اللغوي" حين يتحدث عن تلك المرأة التي أصبحت بديلًا للغيب "حين أضاجعك / أصعد إلى أسفل"؛ فالألوهة هنا لم تعد "ترفعًا" وإنما انغماسًا في المسار العكسي، المفكك لذلك التعالي المجهول الذي يتسم به المطلق. وكأن أثر هذا الاستبدال يمتد بالضرورة إلى حركة الموجودات امتثالًا للتحوّل الشبقي، فنصبح إزاء "عالم بديل" يستند إلى هذا التخيّل الثأري الذي يستخدمه الشعر تجاه الغيب؛ فنجد مثلًا في قصيدة "في بيتي مدام بوفاري" هذا التلازم بين "الفعل الشهواني" تجاه مدام بوفاري وأداء كائن آخر:

"ها أنت تدخلين بيتي

الذي لم يدخله الأنبياء

منذ أن علقت وردة في روحك العالية،

إذا انحنيت لتقبيل يديك الصغيرتين

ينقر عصفور نافذتي".

نلاحظ هنا التناغم الذي يلخص الاستبدال: البيت الفارغ من "الخلاص" والمرأة التي أصبحت بديلًا لذلك الخلاص. مدام بوفاري التي أزاحت "الحكمة" والممارسة التي يخلق بها الشاعر أبديته المناقضة. تقبيل يدي مدام بوفاري ونقر العصفور للنافذة. هذا التناغم هو إعادة اختراع ضدية للعالم. إعادة تفسير لعلاقة فرجينيا وولف بالنهر كما في قصيدة "سماء بضفيرتين":

"أيكون لي شكل الله الآن؟

تقول المرأة وقد غادرها الجسد القديم.

النهر يحب فرجينيا وولف

وقد أحست بذلك

وهي تطوي أوراقها في مكتبها الوحيد".

كأن الشاعر يبعث فرجينيا وولف مجددًا إلى الحياة وفقًا للألوهة الكامنة في انتحارها. كأنه يسبق لحظة انتحارها بخطوة ليجعلها تكشف العلاقة الحميمية بينها والنهر، والذي حين انتزع منها "جسدها القديم" فإنه قد قام بتطهيرها من "سطوة المطلق". هذا ما يجعل انتحارها تدميرًا لما أرغمها الغيب أن تكونه، يجعله حصولًا على ولادة جديدة، إلهية، يقتنصها الشاعر؛ فيحوّل فرجينيا وولف إلى "أنسنة أنثوية للموت" تقوم على أشلاء الموت نفسه.

"المرأة التي تكلّم جدارها كل ليلة

هي ذاتها التي تعرف أسرار الغيمة وأحوال النجوم

لكن الجدار لا يعرف شيئًا عن الحنين

الحنين الذي ينبت كعشب سيء".         

هل تمثل هذه الأنسنة الأنثوية توطؤًا مراوغًا من الشاعر مع الجانب الأنثوي المضمر في ذاته؟ التواطؤ الذي يمارس من خلاله تلك الشبقية الانتقامية مع الغيب الذي يكوّن هذه الذات؟ الذكوري يستبدل المطلق بأنثويته المتوارية والتي تجسدها نساء القصائد، ليتمكن من قتله / امتلاكه خياليًا. ربما تلك الكيفية الوحيدة لإدراك "الروح"، لبلوغ التجانس العسير بين الجسد وفنائه.  

 موقع "الكتابة" الثقافي

21 أغسطس 2024