السبت، 30 نوفمبر 2019

أن تتعطّر بقليل من البارود: التنفس مقابل الحواس

ثمة كلمات تبدو أساسية في ديوان "أن تتعطّر بقليل من البارود" للشاعر عماد الدين موسى الصادر عن دار مخطوطات: (الحب)، (الحرب)، (الحرية) .. لكن هذه الكلمات لا يتم استخدامها كأشياء ذات معانٍ محددة بل كاستعمالات لغوية، بالأحرى محاولات للإبصار من خلال تجريب مفردات بعينها، أو لنقل بوصفها تجارب تتبادل متونها، وتمر من خلال بعضها البعض.
بين (الحب)، و(الحرب) تحديدًا يخلق عماد الدين موسى نوعًا من التمازج .. التداخل الذي يتيح لنا أن نتساءل عن أي (حرب)، وعن أي (حب) نتحدث؟ .. لهذا فذلك التمازج يظل غائمًا كبنية شاملة، بينما تبدو (الحرية) كخطوة مخذولة خارجها .. ربما يرجع هذا إلى أن التداخل بينهما ليس دالًا على فكرة أو مبدأ، كما أنه لا يعتمد على حيلة التناقض التقليدية في إثبات حقيقة سبق استيعابها، بل هو أقرب إلى اختبار الكيفية التي يُحتمل أن يكمن بواسطتها كل منهما داخل الآخر، بحيث يظهر كجزء جوهري من تكوينه .. كبديل للمعنى الغائب الذي يفسره.
"تتمدد الأيام تحت سريري
كأفاعٍ أليفة..
تتكاثر كالنمل
وكالعشب تختفي".
بدءًا من العنوان نفسه، حيث رمزية "البارود" لا تتعلق بوصف تجربة قتالية يتم إثباتها من خلال مجاز "العطر"، بل بتحقق التجربة نفسها داخل كل ما يُفترض أن يكون "رومانسيًا" منفصلًا عنها .. بهذا يكون العنوان واقعيًا، مباشرًا، أكثر منه مستندًا إلى البلاغة، وهو ما يفسره فكرة الامتزاج بين الحب والحرب التي أشرت إليها من قبل .. لو أردنا استدعاء صورة للمنطق وفقًا للعنوان لاعتبرنا أننا نتجمّل بما هو أداة هلاكنا، التي لا تمنحها الكوابيس العادية إلينا فحسب، بل ما نقر بجماله أيضًا.
"تستطيع أن تتعطّر بقليل من البارود
قبل أن تذهب إلى موعدك،
تستطيع أن تُهدي لمن تحب
بضع رصاصات طائشة،
تستطيع أن تقول:
"الحب رداء، وها أنا أرتديه كما ينبغي".
"كجندي منشق للتو، وبفردة حذاء واحدة" هي عبارة أشبه بالخلاصة التشبيهية لموضوع "الاستعمال اللغوي" المضاد لـ "المعنى"؛ فهذا الاستعمال هو برهان الانشقاق عن يقين عام، الأمر الذي أنتج انعزالًا، دليله المجسّد قدم عارية، أي مجرّدة من حماية قديمة، وقدم أخرى تتشبث بفرديتها، أو بالمصير الغامض الذي يمكن أن يفضي إليه السير دون رفقة.
"وما من شفق يلوح
كراية باهتة الألوان
فوق بناء مهجور،
أقف على الناصية
مسبل القلب واليدين
لكن السماء
ـ المنخفضة أكثر مما ينبغي ـ
زرقاء .. كطائر".
أفكر في الخطوات التي ينبغي أن يقطعها هذا الجندي المنشق بوصفها محاولات لاستبدال الأيام / الأفاعي الأليفة، أي التي لا تُنجز مهام القتل مبكرًا، بزمن لا يختفي ـ بعدائيته الماكرة المعتادة ـ كالعشب تحت السرير / علامة المرض، حيث الأرق، أو العجز عن الحركة، أو ما يمكن تسميته بالإغماءة الواعية التي تراقب من داخل سكونها الأجنحة المقطوعة كافة.
"فالحياة أشبه بعجلة
دراجتك الأمامية،
الحياة
التي
ككرة ثلج ..
تنتظر ـ بشغف ـ لحظة زوالها".
إذا تخيلنا مكوّنًا كالظل نابعًا من الذات، يقف مراقبًا "الموعد"؛ فإنه سيرصد بالضرورة كيف يمكن للقاء أن يكشف عن وجه مشترك بين ملامح الحرب والحب .. هذا الظل هو الاحتمال غير المتحقق، وغير المفهوم للحرية .. هو يتأمل القناع / المعنى الغائب فحسب لكل من الحب والحرب، ولا يمكنه أن يفسّر بدايات هذه اللحظة، أو يتنبأ بنهايتها .. إذن يبدو الأمر كأنه يقع داخل نطاق اللغة نفسها، وقد تخلصت من الحدود التي من شأنها تعطيل التوهمات باعتبارها "إبصارًا".
يحيلنا الخطاب الشعري إلى الحرب كمسألة تسبق الحياة .. الجحيم ليس ما نراه من تعاقب زمني بل الفناء المبهم الذي تقدّم على إمكانية الوجود .. الحرية إذن ليست مناقضة لشيء يطلق عليه (السجن) مثلًا، ذلك لأن السجن نفسه يمكن أن يكون الاحتفاظ بفكرة الحب .. بامتلاك تصوّر عن ماهية هذه الكلمة .. الحرية هي الشيء الذي دائمًا هناك إرادة للعثور عليه خارج الانتحار والقتل العشوائي والحتمي، أي قبل أن يُخلق الموت ذاته.
تسعى البصيرة لتشكيل حريتها الخاصة، ربما كتسلل من أشلاء الحرب، وربما كهروب من أنقاض الحب نفسه، وإذا تم استخدام (الطائر) كمرادف لهذه الحرية فهو لا يتوقف هنا عند الرمز المتداول بل يشير إلى التحرر خارج كل ما يتم تجميعه كذخيرة لهذا الطائر، مهما بدت مختلفة عن الماضي .. كل ما يمتلكه الطائر هو كرات ثلج، وثمة عينان تراقبان هذه اللعنة.
يتكرر حضور الطائر عبر القصائد، الأمر الذي قد يجعلنا نشعر بأن شيئًا يُراد تثبيته كأمل أخير في (الحقيقة) .. الطائر هو الرجاء المتبقي من الواقع، أي ليس فقط على مستوى وظيفته الرمزية بل على مستوى قابليته كجسد للتحوّل إلى إجابة فعلية.
هل تمثل هذه (الحقيقة) حدًا فاصلًا تتوقف عنده الموجودات عن التحوّل من احتمالات لفردوس ما إلى قرائن للموت؟ .. من وعود للنجاة إلى مرايا معدّة فقط لتأمل النهاية الوشيكة؟ .. قد يتولّد إحساس ولو على نحو خافت بأن القصائد تتسم بطبيعة صامتة أشبه بالسكون المتواطئ .. هذا الصمت يتلازم مع تكرار آخر وهو التنفس .. التنفس كمقابل للحواس كلها .. التنفس كطائر يريد اختراق الصمت الذي تتلاشى عنده الرجاءات .. لذا فالأمل الأخير هو التنفس حتى النهاية بدلًا من الفهم المتعذّر، أو بلوغ الحد الفاصل للحقيقة.
"الأطفال ما عادوا إلى بيوتهم
الغجر فقدوا عاداتهم الجميلة
أما أنا
ـ عكس العادة ـ
خرجت لأشتم رائحة الموت".
يضع عماد الدين موسى قلب كل كائن على المستوى الظاهري كتعويض عن الفقد .. هذا التعويض يأتي بعد رسم التوحد بين الطبيعة والبشر حيث تبدو الطبيعة مكانًا أثيرًا لدى الشاعر .. القلب باعتباره ذاكرة .. لكن هل يفعل ذلك باعتبار أن الثقة المفترضة تجاه هذه الذاكرة تقتصر على الشعور بكل ما ينطوي عليه من تخيلات، أم على ارتقاء وجودي، أو نوع من الخلاص قائم على هذا التوحد مع الطبيعة الحسية؟ .. بالفعل كان من المنطقي أن يُترك هذا الاستفهام دون إجابة؛ ذلك لأنه لا أحد يعلم كيف يمكن استرداد الأصوات الضائعة، وهل كانت هناك أصوات بالفعل أم لا سواء كان هذا الصوت يخص إنسانًا أو غيمة على سبيل المثال .. لذلك فإنني بشكل تلقائي أستطيع أن أضع الحنين كمسمّى للقلب المعوِّض عن الفقد .. الحنين وليس الذاكرة .. ذلك لأن الذاكرة ستجبرك على استرجاع أغنيات محددة: أشجار .. مرافئ .. مطر .. أغصان .. قوارب .. زهور .. قبلات .. بحار .. أما الحنين فهو يخاطب دومًا ما وراء تلك الأغنيات، أي ذلك الغياب الذي سبق كل هذه الجروح.
جريدة "أخبار الأدب" ـ 1 ديسمبر 2019