الثلاثاء، 31 يوليو 2018

أسوأ طريقة لإنهاء الحياة


لماذا لا أدخل هذا الشارع الجانبي الآن؟ .. أفكر في أن ثلاثين عامًا قد مرت دون أن تتحرك خطواتي في هذا الاتجاه .. هل لا يزال البيت القديم ذو الفناء الصغير غير المسقوف، المغلق ببوابة حديدية خضراء كما هو؟ .. نعم، لا يزال كما هو .. أقف لثوان قليلة داخل  المساحة الترابية بين بوابة البيت القديم والجامع المجاور له ثم أبتعد ثانية .. كأن الاستمرار في الوقوف هناك سيكون له ثمن أكثر فداحة مما يمكنني دفعه .. حسنًا .. لقد رأيت ما جئت من أجله .. علبة ثقاب فارغة موضوع الرهان مع صاحبي: أي منا يستطيع أن يركلها فوق قدميه أكبر عدد من المرات دون أن تسقط؟ .. أعد محاولاتي الناجحة تحت البصر المترقب لصاحبي الذي ينتظر خطأي: واحد .. اثنان .. ثلاث ... فجأة يظهر أبي عند العتبة الداخلية للجامع .. لهذه الدرجة كان صوتي عاليًا أثناء العد فوصل إليه وهو جالس في منتصف الجامع قبل رفع آذان الجمعة .. لهذه الدرجة يستطيع أبي تمييز صوتي .. يقف عند العتبة وينظر لي .. تسقط علبة الثقاب الفارغة على الأرض، ولا ينتبه صاحبي إلى خطأي عندما يري هاتين العينين المحتقنتين وهما تجذباني كالمعتاد من قلبي المرتجف نحو باب الجامع في صمت .. أخلع حذائي وأعبر العتبة ثم أتبع جسده القصير السمين الغاضب نحو العامود الذي حدده كمكان ثابت لصلاته .. يصافحني ونحن راكعين بعد التسليم بملامح متجهمة، مُصوّبًا اللوم القاتل في عينيّ .. أخرج من الجامع وراءه بروحٍ تنتفض مع تخيّل العقاب المنزلي المألوف الذي تم التمهيد له أثناء الصلاة .. لم أكن أعرف أن الأمر قد انتهى بشكل غير متوقع عند هذا الحد .. دون صفعات .. أنظر إلى الأرض فأُدرك أن صاحبي قد أخذ علبة الثقاب الفارغة قبل أن يرحل .. ربما كان الاستمرار في الوقوف أكثر من تلك الثواني سيجعل ما رأيته يتلاشى .. ربما سيتمادى المشهد في الوضوح فيبتلعني نحو الموت .. أبتعد بيقين أنه لا أحد من العابرين ينظر إلى وجهي الآن .. لو التفت أحدهم إليّ في هذه اللحظة فلن يتمكن من إبعاد بصره عن دموعي التي لم أستطع كتمانها .. ربما أريدكم أن تروا هذه الدموع فتعرفوا ما أنا فيه، وسيكون ذلك خطوة أولى لإنقاذ العالم .. كانت هناك حياة تتجهز .. كان كل شيء يؤكد أن هذه الحياة لابد أن توجد .. لكنني أبتعد الآن بخطوات سريعة عن هذا الجزء الضئيل من الجثة الحقيرة المختفية لذلك الوعد البديهي .. لا أصدق أن قلبي تحمّل ثلاثين عامًا من هذا التعريف للماضي .. هذه الدموع ليست ناجمة عن الوعد البديهي الذي أصبح منذ زمن طويل جثة حقيرة مختفية فحسب، وإنما عن التأكد أيضًا بأن ثلاثين عامًا لو تبددت الآن، فلن يكون هناك سبيل لجعلها تحدث على نحو مضاد .. ندم يسير في الشوارع فرحًا بالبكاء، وخائفًا منه، وراجيًا ثغرة ما لإيلامه .. ما الذي كان يلزم أن نفعله كي لا نصل هذه الحسرة؟ .. هل كان هناك ما يمكن أن نقوم به حقًا؟ .. كل ما حولي من بشر وبيوت يذكرني بأن جثة الوعد مختفية في دمائي، وأنني أحتضر بهذا السم المضمون ببطء خاطف.
أنظر إلى العابرين فأجد كل واحد منهم قد أصبح بيتًا متحركًا على وشك السقوط .. بيت له شعر رأس كنباتات سوداء وبيضاء فوق أسطح تعلو جسدًا عاريًا تتناثر فيه النوافذ المتآكلة، المغلقة على فراغات مهجورة .. أنظر إلى البيوت فأجد كل بيت قد أصبح هيكلًا عظميًا مرتعشًا لم يتزحزح من مكانه منذ دهور .. هيكل عظمي كبير ممتلئ بالثقوب السوداء الواسعة كأنها فجوات عملاقة عبرت منها طلقات الغيب في مجزرة تنتمي إلى زمن سحيق، لم يشاهدها أحد .. تنظر البيوت المتحركة لملامحي وهي تعبر حولي، بينما لا أتوقف عن التطلع إلى الهياكل العظمية المتراصة على جانبي كل طريق .. أسمع صرخات عاتية من جميع الاتجاهات، لكنني أفسرها كإيقاعات لحفلات عُرس مخيفة.
فتحت كاميرا الهاتف قبل تثبيته فوق المكتب باتجاه زاوية التصوير الصحيحة .. جلست أمام اللابتوب وبدأت في كتابة السطور الأولى من روايتي الجديدة التي تبدأ بلحظة سقوطي من فوق كرسي الاستوديو الذي ذهبت إليه في عُمر الثانية مع شقيقتي الكبرى لالتقاط صورة سيتم إرسالها لأبي الذي سافر إلى السعودية .. هذه هي المرة الأولى، وأعرف جيدًا الأسباب التي لم تجعل من تصوير نفسي أثناء الكتابة فكرة مغرية، وأعرف أيضًا لماذا قررت أن أقوم بذلك مع هذه الرواية تحديدًا .. أكتب كلمة وراء الكلمة، سطرًا بعد الآخر كأنه لا توجد كاميرا؛ فقد استيقظت صباح اليوم بذهن أشبه بالكتاب المفتوح، يمكن لأصابعي أن تقرأ في صفحاته بوضوح تام تفاصيل بداية سردية طويلة تتمتع بترتيب منضبط، لا يتغافل حتى عن لحظات الصمت القصيرة اللازمة للتفكير في قرارات معينة .. أغلق صفحة الكتابة ثم أطفئ اللابتوب منتشيًا بأورجازم مثالي أنهى اليوم الأول من الكتابة .. أفتح الفيديو على الهاتف .. كل شيء في مكانه كما حددته زاوية التصوير الصحيحة: لوحات القاهرة في القرن التاسع عشر .. القشور البيضاء الصغيرة الملتصقة بالحائط هي بقايا حديقة ورقية كبيرة تم انتزاعها منذ سنوات .. المكتبة .. التليفزيون المغلق .. أصيص النبات البلاستيكي .. المكتب الذي يعلوه اللابتوب، وعلبة أقلام ملصق على جوانبها الأربعة صور من فيلم "كونغ فو باندا" .. الكنبة الخضراء وراء المكتب وفوقها ـ حيث كنت أجلس تمامًا ـ كوخ صغير، في الضوء الأزرق الناعم لآخر النهار الشتائي، يستند إلى حائط من الرصاصي الفاتح، جدرانه الخشبية القديمة لونها رمادي شديد الدكنة، كلون بابه المغلق الذي يتلاحق ارتفاعه وهبوطه كأنه صدر الكوخ الذي يتنفس بمشقة بالغة، بينما تنعكس على الجدران الرمادية من الخارج ظلال النار المشتعلة في داخله .. مع البرودة الصامتة تنعكس هذه الحركة الثابتة للظلال بدورها فوق مساحة العشب الضئيلة الباهتة، المحيطة بالكوخ .. فوق الباب نافذتان زجاجيتان، معتمتان بشكل تام، متجاورتان بالضبط مثلما توجد العين بجوار الأخرى في الوجه، ويكسوهما غبار متجمّد.
أعرف أن الأمر لم يعد مقبولًا .. أعرف أن حالتي قد وصلت إلى درجة من الخطورة لم تعد تسمح بالتمادي في الحياة دون وضع حد حاسم لها .. كل الذين يحاصرونني، ويمرون من خلالي يدركون هذه الحقيقة جيدًا، ولكن بوعي مناقض؛ إذ أنهم ـ بالطبع ـ لا يفكرون في هذه الحالة كمأساة مرعبة بل كهدية مجانية ثمينة، يمنحها العالم إلى كوابيسهم كلما قررت الخطو خارج هذا الباب المغلق .. أربعون عامًا ولم تتوقف مغادرة البيت عن أن تكون موعدًا جديدًا مع المهزلة القديمة .. أرتدي ملابسي وأمشّط شعري ثم أنظر في عينيّ داخل المرآة كأنني أحصل من شخص آخر على تأكيد أخير بأنه لن يغدر ثانية بالعهد الذي لم يتوقف عن خيانته طوال الماضي .. نعم .. يتم الأمر هكذا كل مرة بنفس الدقة على مدار العمر، كأنه خطوة أولى، فاقدة الذاكرة، تتكرر ذاتيًا، ولا يمكن تعطيلها مثل تعاقب الليل والنهار .. أغلق الباب، وأنزل السلالم، وأسير في الشارع كشبح ماكر قادم من بداية العالم، وعلى وشك أن يعقد صفقة رابحة مع نهايته .. لكن ذلك الشخص الذي اضطررت لإشاحة عينيّ عن ضحكته الباكية في المرآة سوف يخترق جلدي من الداخل ليطمس الملامح التي كنت أمتلكها أثناء بقائي وحدي في البيت، ويتحوّل إلى قناع كامل لجسدي بمجرد مصافحتي للغرباء .. هكذا يتم استئناف العرض بشوق جارف .. كأن هذا الشخص ليس له دورًا في الحياة أكثر من تربية الأحلام المازوخية مستترًا في ظلام العزلة، انتظارًا لموعد تحقيقها عند الخروج من بين هذه الحوائط الصامتة .. الثرثرة التي تُرد إلى أعصابي متعة مألوفة من اللطمات الحارقة لسياط الآخرين .. الدعابات التي يعيدها المصفوفون حولي صدوعًا وفجوات تملؤها النشوة إلى روحي .. السكوت المتوسّل الذي يتلذذ بمضغ النظرات والابتسامات لتوهانه بنهمٍ منطقي .. لكن هذا الشخص بالتأكيد يفعل شيئًا آخر .. هو يراقبني بينما أحاول تجميع الحطام الذي أعود به إلى هنا .. الحطام الذي يستجيب لما أظن أنه ترميم مؤقت بينما يتواصل تفتته بإصرار لن ينتهي إلا حينما يتحوّل إلى فراغ.
جميعهم كانوا يمتلكون نفس النظرة الثابتة .. كل الذين كانوا يشاركونك هذا البيت ثم وزعهم الأمل تباعًا على قبورهم .. نظرة المجبر على الاستمرار في أداء استعراض فاضح للمآسي المرعبة .. لا يمكنك نسيان هذه النظرة لأنها نظرتك الثابتة أيضًا .. تتأملها داخل المرآة بينما تحاول الحصول من شخص آخر على تأكيد أخير بأنه لن يغدر ثانية بالعهد الذي لم يتوقف عن خيانته طوال الماضي .. النظرة التي تراقب فيها سقوطك الشخصي من عتمة العائلة التي سقط منها الجميع .. لم يكن أي منهم يريد مثلك أن يخطو خارج هذا الباب المغلق، ولكن ذلك كان محتومًا على قدميه .. كان كل منهم يتمنى مثلك لو تمكن ـ على الأقل ـ من التنقل بعزلته من جحيم جماعي إلى آخر لكنه لم يقدر .. كان ينبغي أن تكون هذه النظرة هي العلامة النفيسة التي تكشف لك اللعنة فتجاهد للتحرر منها .. كان يجب أن تكون السر الذي تغتنمه لإنقاذك .. لكن منذ متى يمكن لإدراك هوية الموت أن يكون مفتاحًا لتفاديه؟ .. ربما الوصف الأكثر مثالية للواقع أن التعرّف على وجه القاتل هو أكثر ما يُسمّر قدميك أمامه .. أن استيعاب الطبيعة التي يكمن بها في داخلك هو أكثر ما يضمن لك أن تعيش وحدك العذاب السابق لكل دمية مذعورة كانت تشاركك هذا البيت.
ربما الأمر أسوأ مما أعتقد .. ربما تصدر عني كلمات وانفعالات أكثر مهانة مما أنتبه إليها .. ربما هناك معرفة سوداء بالنسبة لي، وردية في أدمغة الآخرين يحتفظون بها، يتبادلونها على المقاهي وفي المكالمات الهاتفية، وعبر محادثات فيسبوك، يرجعون بها إلى بيوتهم ويوزعونها على أفراد أسرهم، ويغلقون عيونهم عليها عند النوم ويحلمون بصورها، ويستيقظون في الصباحات التالية بسعادة ممتنة لوجودها في حيواتهم .. ربما تنتشر هذه المعرفة بواسطة الذين يشاهدونني نحو بقية الناس .. كل سكان المدينة ـ على الأقل ـ حينما يمرون بالصدفة أمام هذا البيت لابد أنهم يتذكرونني بشكل عفوي تمامًا .. ينظرون لأعلى حيث شرفة الطابق السادس، ويشعرون بالضيق لأنني لست واقفًا هناك في هذه اللحظة، دون أن يفارقهم الشعور بالحسد نحو الذين يسكنون في العمارات المحيطة ببيتي .. يبطئون من خطواتهم عسى أن أظهر فجأة ثم ينصرفون بحسرة مؤقتة .. أعتقد أنني يجب أن أكون مستعدًا بعد الآن لكل هذا .. يمكنني أن أعلن في صفحتي على فيسبوك مثلا أنني سأقف كل يوم في الخامسة عصرًا داخل هذه الشرفة .. وبما أنني في الطابق الأخير فسوف أرقص حينئذ كما يرقص الجميع في الأفلام والمسلسلات والأفراح الشعبية، ودون أي موسيقى أو إيقاع، متطلعًا لأعلى حيث لا يوجد ما يمكنني النظر إليه .. سيتساقط الجلد عن جسدي، وسيكون غزيرًا كمطر لا يمكن تصديقه، وسيكفي كل المتجمعين تحت الشرفة، الذين سيلتهمونه باستمتاع عظيم .. سأتحوّل بعد دقائق إلى هواء معلقًا عليه ملابسي، ويواصل الرقص، متطلعًا لأعلى، ولا ينظر لشيء .. لكن هذا لن يستمر طويلًا؛ فالهواء الذي سأصير إليه، وبمجرد العودة إلى الداخل وإغلاق الشرفة، سيكسوه جلد جديد، لينتظر سقوطه غدًا في الخامسة عصرًا داخل أفواه الجائعين، الذين لم يتوقفوا عن الرقص في خصيتيّ قبل عبورهم إلى ما أسفل الدنيا.
هل تعرفون أسوأ طريقة لإنهاء الحياة؟ .. أن تتصرف كما لو أنك موجة واهنة ممسوسة، لا تكف عن محاولة طمس آثار جريمة لا تُمحى، وقعت على رمال شاطئ ما، بينما السائرين بمحاذاة البحر، لا يدركون أن ثمة أحدًا قد قُتل في الأصل.
اللوحة: Oskar Kokoschka (1886-1980) Augustusbruecke in Dresden, 1923
أنطولوجيا السرد العربي ـ 30 يوليو 2018