الأحد، 29 يوليو 2018

عن "خوف" عبد الحكيم قاسم

لا يبدو الراوي في قصة "الخوف" لعبد الحكيم قاسم، وهي إحدى قصص مجموعة "الأشواق والأسى"؛ لا يبدو سكرانًا بالخمر مثلما يصرّح في بداية القصة بقدر ما هو سكران بالخوف .. الخوف المبهم الذي يسبق تناول الخمر الرخيص، ثم يتحوّل على إثره إلى حياة معلنة، جارفة كليًا، أي أنه لا ينشأ عن الثمالة فحسب .. لهذا يمكن التفكير في أن قرار الراوي باستخدام الصوت القوي حين يأمر سائق التاكسي بالتوقف ليس لمنع هذا السائق من ملاحظة أنه سكران، وإنما لمنعه من ملاحظة أنه خائف .. لهذا أيضًا يمكن تفسير الحرية اللغوية الكاشفة التي استعملها عبد الحكيم قاسم في السرد، والتي تخلت عن حذر المواراة الرمزية لصالح الفضح النفسي لمشاعر الخوف وتحولاته غير المتوقعة مستعملًا مفرداته وتعبيراته في نقائها الحاد، باعتبار هذه الحرية ناجمة عن السُكر بالخوف نفسه عند بلوغه ذروة كانت جديرة بالحدوث في تلك اللحظة، وليست راجعة إلى الخمر بحد ذاته.
كيف يمكن تأمل الخوف كـ "أصل" مهيمن، يسبق الظواهر المتغيرة ويتجاوز اعتيادها من خلال هذه القصة؟ .. يُظهر عبد الحكيم قاسم الخوف بوصفه استجابة ثابتة، "جذرية" لكل ما هو مألوف ونمطي: الحركة .. الأضواء وانعكاساتها .. التوقف .. الأرقام .. اللمس .. الصمت .. الصعود .. الأصوات .. الكلمات. وبالضرورة للتأويلات الشائعة عن الوجود والزمن والموت الكامنة في الأنساق التقليدية التي تكوّنها هذه العناصر: الطريق والعربة والسائق والأسفلت والسرعة وعدّاد التاكسي والوحشة والصمت والهروب .. سنلاحظ التشكيل البصري عند عبد الحكيم قاسم الذي يعمل أسلوبه في هذه القصة كرسّام للأشباح على المستويين البشري والمكاني: العين الخضراء في لوحة العدادات .. انعكاس ضوء لوحة العدادات على وجه السائق .. الباب الحديدي وصريره الشبيه بصوت كلب داس الراوي على ذيله .. المزج بين صوت محرك السيارة والنفير القوي واصطكاك المفتاح بحثًا عن ثقب الباب .. الظلام التام .. جثث الفئران الهائلة .. الأشكال المخيفة داخل المستطيلات المضاءة .. هذه الأشباح لا تمثل الملامح الخارجية للواقع في عيني الراوي بل تجسّد طبيعة حضورها داخله .. كأنه بهذا التشكيل يحاول التوصّل إلى صيغة ما للتفاهم مع تلك الأشباح، أو إخفائها داخل صور قابلة للتعديل والمحو.  
بذلك تتحوّل القصة إلى ما يشبه الكابوس الفاضح للقهر الذي تضمره الأشياء كافة، حتى تلك التي تبدو روتينية أو محايدة أو تتسم بخصائص مناقضة، ومن هنا يصبح خوف الراوي منطقيًا وفقًا لهذا الوعي، ولهذا، وبكيفية ما؛ فإن الاعتذار المتوسّل الذي قدمه الراوي للسائق عن عدم وجود "فكة" قد يذكرنا باعتذار تشرفياكوف إلى الجنرال بريزجالوف عن "العطسة" في قصة أنطون تشيخوف الشهيرة "موت موظف"؛ فالاعتذارين ـ خاصة مع تطورهما المتلاحق حيث يهرب الراوي من السائق الذي يريد إعطاءه باقي النقود كأنما يفر من دائن، ويلاحق تشرفياكوف الجنرال بشكل كاريكاتوري كي يحصل على غفرانه ـ قد يكونا غريبين للوهلة الأولى، وأقرب للهذيان، لكنهما ينسجمان مع الإدراك الفادح للشراسة التهديدية المتوعّدة التي ينطوي عليها كل ما ينتمي إلى العالم.
تؤكد السطور الأخيرة من القصة ذلك الخوف الذي يسبق تناول الخمر كما أشرت في البداية، كأنما يوثق عبد الحكيم قاسم هذا الجوهر الحاكم لطبيعة علاقة الراوي بالتفاصيل التي ستظل "مرعبة" لحياته حيث تكمن الثمالة الأساسية: المسوخ الشائهة التي تقف في فتحات أبواب الدكاكين المضاءة .. لكن دموع الراوي في النهاية تقودنا إلى ما يمكن أن نعتبره عمق هذا الخوف وهو الحسرة؛ فبكاء الراوي قد يكون تعبيرًا عن وصول الرعب في نفسه إلى هذه الدرجة المتطلبة لتدفق الدموع، ولكنها أيضًا قد تكون دليل الانغماس في الشعور بالفقد لكل البدائل الغامضة التي كان يجب أن توجد محل هذا الخوف.
* * * 
الخوف
عبد الحكيم قاسم
كنت مخمورًا أحاول جهدي أن أستجمع وعيي. سائق التاكسي رصين الكتفين. والعربة تمرق علي الأسفلت المبلول المضاء بمصابيح الطريق .
يبدو أنني مريض بالكبد. كمية الخمر الرخيص في معدتي تثقل علي وعيي مثل كلكل الجمل، لكنني يقظ وعارف، ومن طرف خفي أرقب تتابع الأرقام في عداد التاكسي. هذا السائق كتفاه تتساوقان في حركة رتيبة أكيدة. بعد لحظات سأقول له:
-
هنا ...
عندئذ يقف وأعطيه حسابه. سآمره بالوقوف في صوت خفيض, لكنه قوي وآمر حتى لا يلحظ أنني سكران, عيناي علي عداد السرعة.. تسعون كيلو في الساعة. يا ربي. العربة تستلبني بهذا المروق الخارق علي الأسفلت الناعم. أطرافي باردة بخوف مبهم.
هنا علي اليمين ..
بليونة وقفت العربة . تفتحت عين خضراء في لوحة العدادات, ضغطة هينة علي مقبض الباب. انفتح المعدن صقيل بارد. العربة جديدة متحفزة. بعينين ساجيتين متعاليتين ألقيت نظرة علي العداد. أنا أعرف ما فيه سلفًا لكنني حريص علي أن أبدو طبيعيًا. بأناة خلعت قفازي ودسست يدي في جيب معطفي، وأخرجت ورقة ذات خمسة جنيهات. عليه أن يرد لي ثلاث جنيهات .
بنفس النظرات السجية المتعالية تأملت كفه القابضة علي ورقة النقود، ووجهه الذي تنعكس عليه أضواء لوحة العدادات. سألني وأسنانه تبرق بيضاء لامعة: معاك جنيهين ..
ـ لا ..
ثم ترقرق في قلبي الأسى فأردفت:
-
أسف.
ثم قلت متوسلًا:
-
لا يهم...
لكنه أزاح رجائي بقبضته القوية ثم جذب محوّل السرعة وقفز بالعربة تاركَا في أذني أمرًا باترًا.
-
انتظرني هنا حتى أعود بالباقي ...
تسمرت في مكاني مرتبكًا وخائفًا قليلًا. تتعلق عيناي بالعربة التي تبتعد مسرعة. وجدتني وحيدًا. في مواجهتي علي الضفة الأخرى من الشارع صف طويل من أبواب الدكاكين عمياء صامتة، واقفة علي حافة امتداد إسفلتي لا متناه، مضاء بمصابيح الطريق .
صمت مريب، الوحشة تزحف علي من جميع الاتجاهات وأنا في بؤرة مخيفة, أنطلقت مسرعًا إلي بيتي. حذائي يضرب حصاة الطريق في ارتباك ولهفة. أسرع. أزيد سرعتي. أفر هاربًا. دفعت الباب الحديدي فصر صريرًا عاليًا ككلب دست علي ذيله. صعدت الدرجات القليلة قافزًا أتلفت ورائي كالمطارد. فجأة ملأ سمعي محرك السيارة. لقد عاد. بدأ يطلق نفيره بقوة. يدي تبحث عن ثقب المفتاح. النفير يدوي رهيبًا, المفتاح يصطك بكل مكان ماعدا ثقب المفتاح, بدأ السائق ينادي كحيوان مفترس:
ـ يا أستاذ لك ثلاث جنيهات باقية ..
صفقت الباب ورائي بقوة. في ثوان كنت قد خلعت ملابسي وطوحت بها وقفزت إلي سريري وأحكمت الغطاء حولي، ومازال السائق يزأر:
- يا أستاذ لك ثلاث جنيهات باقية ...
تشبثت بالغطاء وأنا أرتعد. أحاول لأن أهوى إلي قاع اللاوعي لأنجو.
هدر صوت العربة راحلًا. أحسست بالخلاص. لابد أن الشارع الآن ساكن تمامًا. عيناي مغمضتان. الحذر يضغط علي وعيي. يدوسني بأقدام ثقال. ذلك الامتداد الإسفلتي المضاء بمصابيح الطريق, فتحات أبواب الدكاكين. امتداد شاسع يوغل في البُعد حتى لا أحس بالدوار. مستطيلات واقفة متتابعة فيها مسوخ شائهة. ناس أو هي جثث فئران هائلة هائلة متآكلة. ظلال تام ما عدا هذا المستطيلات المضاء التي تقف فيها هذه الأشكال المخيفة. في داخلي تسح دموع دافقة.