الأربعاء، 9 مايو 2018

الديكاميرون ودلتا فينوس


لي صديق كاتب قصص قصيرة اسمه (ممدوح رزق)، حينما أخبرته بالأمر أعد لي هدية فرحت بها كثيراً يا دكتور .. كانت عبارة عن مزاوجة بين القصة الأولى في اليوم السابع من (الديكاميرون) لـ (جيوفاني بوكاشيو)، وقصة (المدرسة الداخلية) لـ (أناييس نن) من مجموعة (دلتا فينوس):
(كان هناك في فلورنسا، في حي سان برانكاسيو، روائي شاب ميت .. كان جميلاً في صباه؛ شعره أشقر، وله عينا، وبشرة بنت أنثى .. في المدينة التي تسودها تقاليد الكاثوليكية القاسية أُرسل إلى مدرسة داخلية يديرها الجزويت، الذين يتبعون نمط الحياة المتقشفة حسب نظام القرون الوسطى .. فالأولاد ينامون على أسرّة خشبية بلا فراش، ويستيقظون صباحاً، ويحضرون الصلاة من غير إفطار، ويدلون باعترافاتهم يومياً، وهم دائماً تحت مراقبة عيون حريصة تتجسس عليهم .. لقد كان الجو خشناً، ومكبوتاً، وهناك يأكل القسس وجباتهم كلٌ على حدة، وتحيط بهم دوائر من القداسة المباركة، ولهم أسلوب لا تخطئه العين في إلقاء الكلام، وصنع الإشارات، والحركات.
أصبح الروائي الشاب الميت مرتلاً أول في كورال كنيسة سانتا ماريا الجديدة، وكان هذا المنصب يفرض عليه تقديم بعض الصدقات والهبات للرهبان، فيهدي إلى أحدهم سروالاً داخلياً، ولآخر عباءة، ولغيره كتفية؛ فكانوا يشكرونه على ذلك بتعليمه أدعية، وتراتيل مفيدة، ويقدمون له (أبانا الذي في السماء) باللهجة العامية، و(أغنية القديس أليجو)، و(حسرة القديس برناردو)، و(تسابيح القديسة ماتيلدا)، وحماقات كثيرة أخرى مشابهة، يحفظها هو بتقدير كبير، ويكررها بورع من أجل خلاص روحه.
كان الروائي الشاب الميت يتذكر دائماً أحد قساوسة المدرسة الداخلية .. كان داكن البشرة، ويجري في عروقه دم هندي، أما وجهه فهو وجه سنطور، أذنان كبيرتان بالمقارنة مع حجم رأسه، وفمه واسع بشفتين مفترتين، ودائماً يسيل لعابه منه، شعره غزير، وله رائحة بهيمة، وتحت ردائه البني الطويل كما لاحظ الأولاد يوجد غالباً نتوء لم يكن الصغار يتمكنون من تفسيره، ولكنه مدعاة لسخرية الناضجين الذين كانوا يسخرون منه من خلف ظهره، وكان هذا النتوء يبرز فجأة في أية ساعة حين يكون الدرس قراءة من دون كيشوت، أو رابليه، أو أحياناً إذا كان يراقب الأولاد، ويتأملهم بشكل مجرد، وبالأخص كان يراقبه، ويتأمله هو .. كان يحب الانفراد بالروائي الشاب الميت ليعرض عليه ما لديه من كتب في مكتبته الخاصة، ومن بينها مؤلفات تضم صوراً لفخاريات من حضارة الأنكا، وغالباً عليها نقوش لرجال يقفون قبالة بعضهم بعضاً، وكان الصبي يسأل أسئلة يجيب عليها القس العجوز بغموض، وفي أحيان أخرى تبدو الصور، والرسوم بمنتهى الوضوح، وفيها عضو طويل يبرز من وسط أحد الرجال ليخترق قرينه من الخلف.
كان الروائي الشاب الميت متزوجاً من شاعرة قصيدة نثر، لم تكن جذابة، ولا جميلة تُدعى السيدة نون، هي ابنة مانوشيو دي لاكوكليا .. امرأة حكيمة، ومتبصرة، تعرف سذاجة زوجها، وقد أُغرمت يوماً بكاتب قصص قصيرة، وهو شاب وسيم، ومفعم بالحيوية، وأحبها هو بدوره .. بمساعدة خادمة لها، رتبت السيدة نون أمر مجيء كاتب القصص القصيرة لتبادل الحديث معها في بيت ريفي جميل يملكه زوجها في كاماراتا، وتقضي الصيف فيه .. كان زوجها الروائي الشاب الميت يأتي في بعض الأحيان لزيارتها، ويبقى هناك لتناول العشاء، والنوم مع زوجته؛ لكن زياراته تلك لم تكن كثيرة .. في مساء أحد الأيام ذهب كاتب القصص القصيرة إلى هناك، ولأن الروائي الشاب الميت لم يأت في تلك الليلة، فقد ظل لتناول العشاء مع السيدة نون، وأمضى الليل بين ذراعيها، وقد علّمته المرأة ستة من تراتيل زوجها، وقررا تكرار تلك اللقاءات الليلية، واتفقا معاً على أن يمر كل يوم، وهو عائد من أرض له قريبة، فينظر إلى دالية كرمة قريبة من البيت، حيث يجد جمجمة حمار معلقة على غصن من الدالية، فإذا كان وجه الجمجمة باتجاه فلورنسا، يكون الطريق آمناً، ويمكنه المجيء إلى البيت في تلك الليلة؛ وإذا لم يجد الباب مفتوحاً، يطرقه ثلاث مرات، فتفتحه له .. أما إذا رأى وجه الجمجمة باتجاه فيسولي، فعليه عدم المجيء لأن زوجها الروائي الشاب الميت يكون موجوداً هناك.
كان الروائي الشاب الميت يسترجع أيضاً جلسات الاعتراف بمدرسته الداخلية:
كان القس يغمر الصبيان بالأسئلة، وكلما بدا أنهم أبرياء، ألح عليهم بأسئلته في الظلام المخيم على مقصورة الاعتراف الصغيرة، والضيقة، ولم يكن بوسع الأولاد الراكعين أن يشاهدوا القس الجالس في الداخل .. كان صوته الهامس يأتي من خلال نافذة يغطيها الشباك، ويسأل: "هل تنتابك خيالات عاطفية على الإطلاق! .. هل تفكر بالنساء؟ .. هل حاولت أن تتخيل امرأة عارية؟ .. كيف تتصرف ليلاً، وأنت تستلقي في سريرك؟ .. هل تلهو بأعضائك التناسلية؟ .. هل تحب جسمك؟ .. ماذا تصنع صباحاً حينما تنهض؟ .. هل تشعر بالانتصاب؟ .. هل تحاول استراق النظر من صبيان آخرين، وهم يبدلون ثيابهم؟، أو وهم يغتسلون في الحمام؟ ".
الصبي الذي لا يعرف شيئاً عن ذلك سوف يفهم سريعاً ماذا يجب عليه أن يقول، ويشعر بالعذاب من جراء الأسئلة، والصبي الذي لديه فكرة عن الموضوع يشعر بالمتعة خلال الإدلاء باعترافاته عن نوازعه، وأحلامه بالتفصيل.
كان يوجد صبي يحلم كل ليلة، ولم يكن يعرف كيف هو شكل المرأة، ومما هي مصنوعة، ولكنه شاهد الهنود يمارسون الحب مع فيكونا، التي تشبه غزالة رقيقة، وحلم بممارسة الحب مع الفيكونات، وكان يستيقظ، وهو مبلل بنطافه كل صباح، وكان القس العجوز يشجعه على الادلاء باعترافاته هذه .. يصغي له بصبر لا ينفذ، ويفرض عليه عقوبات غريبة .. كان يطلب من الصبي الذي يستمني باستمرار أن يذهب للمصلى في الدير برفقته حينما يكون مهجوراً، ويغمر عضوه في الماء المقدس، وهكذا يتطهّر، ويصبح نقياً بلا شوائب .. مثل هذه الطقوس كانت تجري في الليل بسرية بالغة.
كان هناك غيره صبي شرس له محيا أمير مغربي صغير، ووجه أسود، وقسمات نبيلة راقية، وشجاعة الأباطرة، وجسم متناسق التكوين، وبض حتى أن عضلاته، وعظامه لا تبرز فيه .. إنه ناعم، ومتناسق كأنه تمثال.
تمرد هذا الصبي على عادة ارتداء ثوب النوم، واعتاد على النوم عارياً فالبيجامة تخنقه، تكبّل حركاته، غير أنه يرتديها كل ليلة مثل سواه من الصبيان، ثم سراً ينتزعها، وهو راقد تحت الملاءات، والأغطية، ثم يغط بالنوم.
في كل ليلة يقوم الجزويتي العجوز بجولات تفتيش ليتأكد أن الأولاد لا يزورون أقرانهم في السرير، ولا يستمنون، ولا يتبادلون الكلام في الظلام مع المجاورين لهم، وعندما يصل لسرير الصبي غير المستقيم، يرفع الغطاء بتؤدة، وحذر، ويلقي نظرة على جسمه العاري، ولو استيقظ الولد يؤنبه قائلاً: "حضرت لأتأكد أنك تنام من غير بيجامة مجدداً!"، ولو أن الصبي لم يستيقظ يأخذ منه نظرة مستقرة طويلة يتأمل بها جسمه الشاب الراقد.
يتذكر الروائي الشاب الميت في إحدى المرات خلال درس التشريح حينما كان جالساً يستمع، ويرنو بينما الجزويتي العجوز يقف على منصة التدريس، وكان البروز تحت ثوبه الكهنوتي واضحاً للعيان لكل ناظر.
سأله الجزويتي العجوز: "كم عدد العظام في جسم الإنسان؟"
رد الروائي الشاب الميت بميوعة، وقال: "مائتان، وثمانية"
جاء صوت صبي آخر من نهاية الصف قائلاً: "ولكن لدى الأب دوبو مائتان، وتسعة! "
التقى كاتب القصص القصيرة، والسيدة نون مرات كثيرة، وفي أحد الأيام، وكان مفروضاً أن يأتي كاتب القصص القصيرة للعشاء مع السيدة نون، فأعدت له عشاء فاخراً بشواء ديكين سمينين، ولكن .. حدث أن حضر الروائي الشاب الميت في وقت متأخر، فتضايقت السيدة نون كثيراً من مجيئه، وخبأت الطعام الفاخر في شرشف أبيض، وتناولت معه قليلاً من اللحم المملح، والمقدد، ثم أمرت الخادمة بأن تحمل الديكين المشويين، وكمية من البيض الطازج، والنبيذ الفاخر إلى مكان في الحديقة حيث يمكن لعشيقها الدخول دون المرور بالبيت، وحيث اعتادت أن تتناول العشاء معه في بعض الأحيان، وطلبت من الخادمة أن تضع ذلك كله عند أصل شجرة دراق بجوار مرج صغير، وكان استياؤها شديداً حتى إنها نسيت أن توصي الخادمة بأن تنتظر إلى أن يحضر كاتب القصص القصيرة، وتخبره بمجيء الروائي الشاب الميت المفاجيء، وبأن يأخذ تلك الأشياء من الحديقة.
بعد أن أوى الزوجان إلى فراشهما، قرر الروائي الشاب الميت بفرح أن يحكي مجدداً للسيدة نون أنه ذهب مع أولاد المدرسة الداخلية برحلة إلى الطبيعة، وضل الطريق منهم عشر أولاد، ومن ضمنهم هو .. وجدوا أنفسهم في غابة، بعيداً عن الأساتذة، وبقية الزملاء في المدرسة، وجلسوا ليأخذوا قسطاً من الراحة، ثم قرروا اتخاذ مبادرة يكسرون فيها الروتين .. بدأوا بالتهام التوت، ولكن كيف بدأ ذلك، لا أحد يعلم بالضبط .. بعد فترة قليلة أُلقي الروائي الشاب الميت على بساط الأعشاب، وتم تجريده من ثيابه، وأُلقي على بطنه، وجلس فوقه الأولاد التسع الآخرون، واغتصبوه كما لو أنه عاهرة، وفعلوا ذلك بقسوة، وقد اخترقه الصبيان الخبيرون بما يفعلون من الخلف لإشباع رغباتهم، بينما الأقل خبرة لجأوا لحك سيقانهم مع ساقي الصبي، الذي له بشرة حساسة مثل امرأة، ثم بصقوا على أيديهم، وحكّوا أعضاءهم باللعاب .. كان الروائي الشاب الميت يصرخ، ويرفس ويبكي، ولكنهم تكاتفوا جميعاً لتقييده، والاعتداء عليه حتى النهاية.
حضر كاتب القصص القصيرة، وطرق الباب برفق، وكان قريباً من غرفة نوم الزوجين، فسمع الروائي الشاب الميت الطرق بوضوح، وسمعته كذلك زوجته، ولكنها تظاهرت بالنوم كي لا توقظ شكوك زوجها، وبعد قليل، طرق كاتب القصص القصيرة الباب مرة أخرى، فنبّه الروائي الشاب الميت زوجته، وقال لها:
ـ أتسمعين يا نون؟ .. هناك من يطرق الباب ...
وكانت المرأة تسمع خيراً منه، ولكنها تظاهرت بأنها تستيقظ من نومها، وقالت له:
ـ ماذا تقول؟ ...
فكرر الروائي الشاب الميت:
ـ أقول إن هناك طرقاً على الباب.
ـ طرق على الباب؟ .. آي يا أيها الروائي الشاب الميت! أتعرف ما هذا؟ .. إنه شبح أخافني كثيراً في الليلة الماضية، حتى إنني غطيت رأسي، ولم أتجرّأ على رفع الغطاء عنه حتى الصباح.
عندئذ قال الروائي الشاب الميت:
ـ لا تخافي يا امرأة، فعندما أوينا إلى الفراش، وبعد أن حكيت لكِ ما جرى لي في المدرسة الداخلية، تلوت دعاء (تي لوشيس)، و(إنتريمراتا)، وصلوات أخرى؛ كما أنني رسمت إشارة الصليب على الفراش باسم الأب، والابن، والروح القدس؛ فلا يمكن لشبح، مهما كانت سطوته، أن يُلحق بنا الأذى.
ولخشية السيدة نون من أن تخامر كاتب القصص القصيرة الشكوك، وتذهب به الظنون مذهباً آخر، قررت أن تنهض، وتنبهه إلى أن زوجها موجود معها في الداخل، فقالت للروائي الشاب الميت:
ـ ما تقوله كلام حسن، ولكنني لن أشعر بالطمأنينة إلى أن نطرد هذا الشبح معاً، لاسيما أنك موجود هنا الآن.
قال الروائي الشاب الميت:
ـ وكيف تريدين طرده؟ ...
فقالت المرأة:
ـ انظر يا عزيزي الروائي الشاب الميت، عندما ذهبتُ أول أمس إلى فيسولي، علمتني متدينة ورعة دعاء بالغ القداسة، وقالت لي إنها جربته مرات عديدة قبل أن تدخل سلك الرهبنة، وقد أفادها على الدوام، ولكن الله يعلم أنني لم أتجرأ قط على تجريب هذا الدعاء، وأنا وحيدة، وبما أنك الآن معي، فإنني أريد أن نذهب معاً لطرد الشبح بهذا الدعاء.
وافق الروائي الشاب الميت على طلبها، ونهضا معاً، ونزلا إلى الباب؛ وهناك قالت السيدة نون:
ـ عليك أن تبصق عندما أطلب منك ذلك.
وبدأت المرأة بالدعاء قائلة:
ـ أيها الشبح، الشبح، يا من أتيت منتصب الذيل، ستُصرف الليلة، وأنت منتصب الذيل؛ فاذهب إلى البستان، عند أصل شجرة الدراق الضخمة، وستجد هناك شحماً مطبوخاً، ومئة بعرة من روث دجاجاتي؛ فخذها، وتلذذ بأكلها, وانصرف بسرعة، ولا تُسبب الأذى لي، ولزوجي الروائي الشاب الميت.
وما إن انتهت من قولها هذا حتى أمرت زوجها:
ـ ابصق الآن أيها الروائي الشاب الميت!
بصق الروائي الشاب الميت، وكان كاتب القصص القصيرة يسمع من الخارج، فتلاشت غيرته، وأوشك على الانفجار بالضحك، لكنه قال بصوت خافت، حين بصق الروائي الشاب الميت:
ـ فلتبصق على العفاريت!
وبعد أن عزّمت السيدة نون على الشبح ثلاث مرات بهذه الطريقة، رجعت إلى الفراش مع زوجها، أما كاتب القصص القصيرة الذي كان يأمل بأن يتناول العشاء معها، فأدرك ما الذي تعنيه كلمات الدعاء .. فقد ذهب إلى حيث شجرة الدراق في البستان، ووجد هناك الديكين المشويين، والنبيذ، والبيض، فحمل كل ذلك إلى بيته، وتعشّى على خير ما يرام، وصار كلما التقى بالسيدة نون بعد ذلك، يضحك، وإياها مقهقهين من ذلك الدعاء السحري).
جزء من رواية "الفشل في النوم مع السيدة نون" ـ دار "الحضارة" 2014