الجمعة، 4 مايو 2018

قناع أبي

"ما لم يسجله دكتافون أجاثا كريستي"
قبل موته أعطاني أبي قناعًا .. بعد فترة قررت استغلال التشابه الذي تأكدت منه بين جميع الأقنعة .. ادعيت فقداني لهذا القناع، وأصبحت أستعير أقنعة أصدقائي كي أواصل الحياة .. كنت كلما أخذت قناع أحدهم لا أرتديه، وإنما أعود به إلى بيتي وأتركه هناك ثم أرتدي قناعي الذي ادعيت ضياعه وأخرج إلى الشوارع .. بعد انقضاء وقت كاف لأن يدرك الناس وجود القناع على وجهي أقوم بنزعه خلسة فيعود وحده إلى البيت بعد أن درّبته جيدًا على ذلك ثم أبدأ بوجه عارٍ ومضطرب في سؤال الناس عنه فينكرون رؤيته .. يؤمنون بأن مجهولًا قد نجح في خطف القناع من على وجهي والاختفاء في لمح البصر كما سأقرر أنا بأسف ويأس، وسيتيقن كل صديق استعرت قناعه من روايتي حينما يعود للاستفسار من الناس الذين سيؤكدون له أنني كنت أحمل قناعًا بالفعل ثم أصبح وجهي مجردًا منه فجأة، وبالطبع لن يدركوا أبدًا أن هذا القناع كان ذلك الذي أعطاه أبي لي، وليس الخاص بصديقي الذي ستصله رسالة فدية .. أطلب من كل واحد مقابل استعادة قناعه أن يكتب سرًا شخصيًا من حياته لا يعرفه أحد، وأن يكون هذا السر مُشبعًا لي حتى لو كان مُختلقًا؛ فسواء كانت الأسرار صادقة أو كاذبة فإنها تمثل وجوهًا لحقيقة الشخص الذي نجمت عنه .. أطلب منه أن يترك السر المكتوب في مكان ما، وإذا كان السر مُرضيًا لي بالفعل أعيد إليه القناع دون أن يكتشف شيئًا، وإذا لم يكن كذلك، أرسل إليه بطلب فدية جديد حتى أحصل على السر الملائم.
امتلأت المدينة بأسرار أصدقائي التي جعلتها متاحة للجميع، ولم يشك أحد منهم أبدًا ـ رغم التكرار المنضبط للحيلة ـ في أنني أقف وراء كل ما يحدث؛ فهم يعتقدون أنني أكثر غباءًا وجُبنًا من التفكير في ذلك .. استمر أصدقائي في إعارة أقنعتهم لي، وتحوّلت دهشتي من عدم ارتيابهم إلى عجز عن التصديق ثم إلى الغضب الذي ظل يتصاعد حتى وصل إلى ذروة مخيفة قررت معها أن أعلن عن نفسي، وعن القناع الذي أعطاه لي أبي ولم أفقده، وعن وقوفي وراء خطف الأقنعة المتكرر، ورسائل طلب الفدية، وفضح الأسرار .. مع ذلك لم يصدقني أحد، ولم يعترفوا بأن القناع الذي ادعيت فقدانه هو الذي أعطاه لي أبي ذلك لأنه يشبه جميع الأقنعة الأخرى بل واستمروا دون انقطاع في إعارة أقنعتهم لي، والاستجابة لكتابة الأسرار الشخصية وتركها من أجلي كأنهم يمنحونها لشخص آخر رغم رؤية أسرارهم تلك وهي بحوذتي، وعندما ازدادت محاولاتي للتأكيد على الحقيقة تمادوا في السخرية من غضبي، وأصبحوا يحاصرونني بالضحكات التي تتراكم يومًا بعد آخر، ومازلت أستطيع تمييز ضحكة أبي القوية من بينهم.
اللوحة لـ "رينيه ماغريت".